الأربعاء، 29 ديسمبر 2021

عم الشيخ سيد

 نتأرجح نحن الشباب بين المواظبة على الصلاة فى المسجد و بين الغياب. لا أذكر فى يوم أننى ذهبت للصلاة فى المسجد إلا و وجدته إما إماما أو مأموما. كان عمودا من أعمدة المسجد , كان حينما يصلى بنا صلاة الفجر و بينما السكون يسبح بحمد الله يحلق بنا بصوته الرخيم فى ملكوت السماء فتشعر و كأنك قد ولدت من جديد. يتلو علينا ما شاء الله له أن يتلو من القران فتنساب منك دموعك رغما عنك.كنت أنظر له دائما نظرة أحترام و اجلال و يظطرب قلبى محبة حينما أراه فى الطريق أو فى المسجد. كنت أستمتع كثيرا بدروسه فى المسجد بعد صلاة العصر, كان كلامه يمتلىء رقة و عذوبه و هو يعلمنا الدين. لم أراه يوما متجهما أو متشددا فى الدين, بل كان دائما يدعو لكل الناس بالهداية. أذكر أنه فى مرة قال لنا بعد صلاة الفجر لا تغتروا بعبادتكم و لا تنظروا لمن فاتتهم الصلاة و كانهم عصاة, فانتوا لا تعرفوا أيهم أقرب الى الله, نحن أم هم!
لم يجمعنى به يوما حديث, حتى شاء الله أن اعرفه. اختار الله لى أن اعرفه فى افضل المجالس , فى مجلس لا يشقى أبدا جليسه. كان يجتمع مع أهل الله و خاصته بعد صلاة الفجر فى حلقة حول كتاب الله. فى كل مرة كان ينظر إلى بعد الصلاة و كأنه يريد أن يدعونى, و كنت دائما أخجل منه. حتى شاء الله أن يفتح لى أبواب الخير, ففى ذات يوم دعى أخى إلى المقرأة ثم أخبرنى أخى بذلك و من وقتها صرنا من تلاميذه. تعلمت على يديه أحكام التلاوة و كنت أستمتع تماما و أنا اراه يقرأ فى كتاب الله. كان حريصا جدا على أن تكون المقرأة قائمة و لم يتغيب عنها أبدا إلا ربما مرة أو مرتين على الأكثر. ذات مره و بينما كنت أقرأ كنت ألمحه بطرف عينى ينظر إلى بتركيز  شديد , ثم بعد أن انهيت التلاوة قال لى أنت صاحب صوت نوبى جميل. فكانت هذه كلمات أحببتها جدا و كأنه وضع فوق رأسى تاج الوقار.

كان دائما يسبق الجميع إلى المسجد فى الصلوات الخمس, و كنت أتعجب من ذلك جدا من أين له بالوقت و الطاقة لذلك و هو كان يعمل سائقا لتاكسى بسيط و هى مهنة تأخذ من وقت صاحبها الكثير. لم أره يوما إلا مبتسما و راضيا و يشع بهجة و محبة و رضا باقدار الله. كان وجوده حولنا يشعرنا براحة و طمأنينة لا تنتهى و لا نعرف سببها. تشعر فى القرب منه أن الدنيا لا قيمة لها و أن ما عند الله خيرا و ابقى. أحب الناس و احبه الجميع, كان له حضور طاغى و شخصية متواضعه جدا فى مزيج عجيب لا تجعلك تعرف أى نوع من البشر هو.لم أراه يوما متجهما أو متسخطا, إلا فى مره واحده لانه حضر إلى الصلاة متأخرا

 كان حريص على القران تدبرا, حفظا, و تلاوة. اذكر انه ذات يوم فى صلاة الفجر كان هو الأمام و كنت أنا خلفه مباشرة, فقرأ بفواتيح سورة الكهف ثم أخطاء فى الايات و لوهله شعرت أنه أخطاء و هممت أن اصحح له ,ثم شككت فى نفسى و قلت هل مثله يخطىء هكذا؟! ثم بعد الصلاة أنتابه حزن شديد و ظل يردد لنا و كنا ما يقرب من خمسه من تلاميذه كم هو حزين لأنه أخطاء فى التلاوة و ازداد حزنه أكثر ان احدا لم يصحح له خطأه

أذكر قبل أربع سنوات و النصف حينما قررت السفر إلى ألمانيا, و فى فجر يوم السفر صليت صلاة الفجر فى المسجد و كان هو الأمام لحسن حظى و قرأ أيات شعرت أننى أسمعها لأول مره. ثم ذهبت كعادتى لأسلم عليه و قلت له إننى سوف أسافر لطلب العلم ثم طلبت منه الدعاء فنظر إلى نظرة كلها محبة و دعى لى دعوة لا زلت أراها أمام عينى ليلا و نهارا. فقال لى "ربنا يصرف عنك شياطين الأنس و الجن" ظللت أرى أثر هذه الدعوة حتى هذه اللحظةّ!

قبل سنتين عدت إلى مصر فى زيارة و وجدت المرض قد تمكن منه و لم يعد قادرا على الصلاة أماما. ثم بعد قليل صار يصلى فى الصفوف الخلفية لأنه لم يعد قادرا على الصلاة واقفا. رويدا رويدا بدء يغيب عن المسجد و فى كل مره من هذه المرات كنت أشعر بحزن مضاعف. كان دائما ياخذنى الشوق لزيارته فكنت أذهب إلى منزله لأزوره فما من مره ذهبت إليه إلا و وجدته منكبا على كتاب الله يقرا فيه. كنت دائما ما أوصى والدى و أخى و أصدقائى أن يرسلوا له السلام و كنت أحزن حينما أعرف منهم أنه لم يعد قادرا على الصلاة فى المسجد

اليوم رحل هذا العبد الصالح و ترك فى القلب أثرا طيبا, و ترك لنا علما ننتفع به و لكن

رحل عنا و بقى لنا فى القلب وحشة لن يداويها إلا أن نلقاه فى الجنة و إن كنت أرى أننى بعيدا عن ذلك تماما, إلا أن يتغمدنى الله برحمته

نحسبه على خير و لا نزكيه على الله

أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ... سورة يونس

سلام عليك يا عم الشيخ سيد و أسال الله ان يكون مقامك فى الجنة محمودأ. كما أسال الله رب العرش العظيم أن يجمعنى بك مع من أحب فى ظل عرش رحمته


نم فى سلام

الثلاثاء، 26 نوفمبر 2019

يوم فى الظلام

(1)
كلهم فشلوا فى الإختبار,فأرجوك ما تفشلش أنت كمان
(2)
ظروف ما جمعتنى بشاب أتى ليدرس فى مدينة قريبة منى فى ألمانيا و طلب مساعدة  أن يتنزه أحد ما معه فى  مدينة فى الولاية 
التى أعيش بها. رحبت بالطبع بالفكرة و لظروف مختلفة كان  كل مره يتم تأجيل الموضوع حتى أستطاع كلانا أن نوفق موعد مناسب 
(3)
حتى هذه اللحظة يبدو الأمر عادياً, لكن دعنى أخبرك بتفصيلة سوف تجعل كل شىء مختلف تماماً.... فلتصبر قليلاً و سوف تعرف
(4)

أنتقلت حديثاً إلى المدينة التى أسكن بها حاليا منذ حوالى 4 أشهر أو أقل و كعادة  البدايات دائما ما يملأنا الحماس و التفاؤل, و لما لا فكل شىء يبدو جميل و رائع و الأهم جديد. مسكن جديد, بداية جديدة, و أصدقاء جدد لم تتلوث علاقتنا بعد.
و لكن فجأة و بدون مقدمات و بعد أيام قليلة بدأ كل شىء ينهار تماماً بتسارع عجيب وتواتر أعجب. مرت 3 أشهر هى الجحيم بعينه, كل يوم خبر صادم أكثر من الذى قبله , كل يوم أستيقظ و أخشى ما أخشاه أن يطرق أحدهم باب غرفتى ليخبرنى بمصيبة جديدة. أستيقظ فى الصباح و قبل أن أفرك عينى أو أحتسى قهوتى الصباحية المفضلة اجرى مسرعا لأتفقد صندوق البريد لعل أحدهم أرسل لى بريداً جديداً ربما يحمل خبر ما, فى بلد يقتات
أهلها على الخبز الألمانى الشهيرو البيرة الألمانية الأشهر و مراسلات البريد التى فى الغالب لا تأتى بالأخبار السارة
(5)
هذا الشاب أعمى... هى كذلك كما قرأتها أعمى و سوف أظل أستخدم هذا المصطلح حتى أفرغ من سرد حكايتنا معا, و لن أستخدم أى من تلك الألفاظ الجميلة المملؤة بالتملق على شاكلة متحدى الإعاقة أو ذوى الأحتياجات الخاصة أو حتى أخر المصطلحات الشيك أصحاب الهمم العالية! لى بالطبع أسباب فى ذلك و سوف أسردها لاحقاً
(6)
لو سألتنى فى هذه الفترة ما هو أفضل شىء كنت تتمناه؟ سوف أخبرك بدون تردد, لا مزيد من الأخبار السيئة و يا حبذا لو حصلت على إجابة حاسمة فى معضلة كبرى حدثت و لا يبدو أن لها مخرج إلا من عند الله. فى هذا الوقت كان تنفيذ حكم الإعدام و الحصول على إجابة صادمة و قاسية أكبر كثير من القنل البطىء و المؤلم تحت سياط الإنتظار
(7)
 أخيرا إلتقينا فى محطة القطار فى طريقنا إلى مدينة كولونيا الجميلة. شخصية تخطفك بذكائها الغير محدود,ربما لا تملك عيون مثل عيوننا الطبيعية و التى ربما تخبرك الكثير عن شخصية من تقابله لأول مره, و لكنك تلمح الذكاء فى تفاصيل شخصيته و أسئلته.يسمعنى أتحدث بألمانيتى الركيكة إلى مفتش القطار فيلتقط جملة أو كلمة من حديثنا و يشتبك معنا فى الحديث و هو لا يعرف الألمانية مطلقا. حينما تفتح حوار معه فلتتأكد أنك سوف تسمع كلام مختلف غير الكلام النمطى الذى قد تسمعه من من هم فى سنه. تجده يفكر فى المستقبل و يتحدث عنه بطريقة مختلفة
(8)
أسرح بخيالى قليلا و أنا أتأمل المروج الخضراء الجميلة من نافذة القطار المسرع و ينساب بين ثنايا عقلى المزدحم بالأفكار السوداء هذه الكلمات المليئة بالشجن فتملىء عقلى و روحى شجون فوق شجونها
وفى ليلة سرحت فى اللى راح
 دمعت وصحيت الجراح
 ما بقاش بيساعك البراح ولا يملى عينيك
فى الدنيا ياما جرى
 ما بتمشيش بالمسطرة
 ضحتلك، ولا يا ترى ضحكت عليك
(9)
يبدو لنفسى المهمومة وقتها أن السنوات قد إنسابت بين أنامل يدى كما ينساب الماء. تشعر بالماء بين يديك و لكن ليس لك حيلة أن توقف إنسيابه. هكذا إنقضت سنوات عمرى, ما بين إنتظار لأشياء لم تحدث كان وقتها الصبر ديدنى و معينى على مر إنتظارها و  أشخاص خطأ أفسدوا فى روحى ما أفسدوا و رحلوا تاركين ندوب عميقة كنت أتصور 
أنها سوف تنقضى مع إنقضاء السنوات و لكنها لما تفعل.كنت أظن أن الغربة ربما تساعد على شفاء روحى و تعويضها عما فات, ولكنها كانت أكثر قسوة و مرارة من كل ما مضى
(10)
عارف أنا نفسى فى ايه؟
كان هذا سؤال القاه على مسامعى الشاب, و الذى أقتلعنى من خيالاتى

نفسك فى إيه؟
نفسى أجى أعيش هنا و بفكر أقدم على لجوء
(11)
مسكين أنت أيها الشاب
أنت كغيرك و كمثلى منتج لمجتمعنا الذى أوهمك و أوهمنا جميعا أن الحياة فى الغرب مثالية إلى حد تنتهى معه كل المشاكل. بالطبع هى مقارنة بحال بلادنا جيدة جدا. لكنها قاسية جدا وباردة جدا, و لا تعطيك مجال للراحة أو لإلتقاط أنفاسك. تجعلك تتحول مع  الوقت إلى ألة مهمومة بجمع المال و تحمل سخافات الأخرين. تجعلك تموت كل يوم بشكل بطىء حنينا إلى أهلك و حياتك السابقة
(12)
أنت حكايتك ايه؟
سؤال ألقيته على مسامع الشاب هذه المرة, هنا أسترسل فى الكلام
أنا من أوائل الثانوية العامة, و طالب بالسنة النهائية بأحد كليات القمة. جئت هنا فى منحة دراسية لمدة فصل دراسى واحد . أنا بالمناسبة أدرس فى أحد كليات القمة فى الفصل ما قبل الأخير. و لكن كما تعلم من هم مثلى لا يمكنهم الإلتحاق بوظيفة جيدة فى وطن يدهس من هم مثلى دهسا كل يوم. ليس على مستوى الحكومة و لكن الناس أيضا. 
تخيل كل يوم حد يشوفنى فى الشارع لوحدى يقول لى أنت أيه اللى ممشيك لوحدك كده, فين أهلك. و كأنى مش من حقى أعيش حياتى من غير مساعدة أهلى, أو إن أهلى ليس من حقهم أنهم يشوفوا مصالحهم من غير ما يفضوا نفسهم ليا. الناس بقت قاسية أوى
(13)
ألتقطت منه الحديث: أيوه قسوة الناس موجودة و هاتفضل موجودة لحد يوم الدين. الشاطر هو إللى يعدى الناحية التانيه و قلبه سليم
(14)
أنت بتقول كده علشان ما شوفتش اللى أنا شوفته. عارف أنا مره كنت فى أوروبا هنا فى مؤتمر تبع الأمم المتحدة, و كنت مسافر رايح زيورخ. و لأن زيورخ غالية جدا كأى مدينة سويسرية, كان صعب عليا إنى أحجز فى فندق و المؤتمر كان مغطى لنا بس تذاكر الطيران. فأنا كنت بدور على أى جهة مصرية أو حد يستضيفنى عنده. المهم كلمت جمعية مصرية و أتفقت معاهم إنى أبات عندهم. بعد ما وافقوا و و أنا راكب القطر و داخل على زيورخ و الدنيا ليل و كنا فى شتاء. البيه المسئول كلمنى قبل معاد وصولى بساعه بيعتذر إنه مش هايقدر يستضيفنى علشان مديره بهدله إنه هايستضيفنى فى المكان وده بيعرض المكان للخطر. تخيل موقفى كان عامل إزاى وقتها؟ 
(15)
كلهم فشلوا فى الإختبار,فأرجوك ما تفشلش أنت كمان. الموظف إللى اتصرف هو و مديره بغباء و لا إنسانية . الناس اللى مش بتراعى مشاعرك و انت فى الشارع. كل واحد بقصد أو بدون ضايقك بسبب ظروف أنت ما أختارتهاش.
(16)
وصلنا بعد ساعة و نصف إلى كولون و فى محطة القطار المزدحمة كالعادة إكتشفت لأول مره أشياء لم أكن أفهمها. لم أكن أفهم كما هى نعمة عظيمة أن يكون لنا عينان نبصر بهما. فى مكان مزدحم كمحطة القطار, تحتاج إلى عيناك أكثر من أى حاسة أخرى. فإذا لم تنتبه إلى أبعاد الرصيف ربما ينته بك الأمر على قضبان القطار و النهاية نعرفها جميعا! لم أكن أعرف كم هو مهم أن ترى أمامك حتى تسرع فى خطواتك. لم أفهم أيضا أن صعود و هبوط الأرصفة حتى المنخفض منها لا يمكن أن يتم إذا لم أراه, خاصة حينما أكون مسرع فى خطواتى

(17)


ممكن توصف لى شكل الشارع؟ سؤال تكرر على مسامعى كثير لدرجة كنت أشعر معها كم هو سؤال سخيف
شارع زى أى شارع, كان هذا الكلام يدور فى عقلى! لكن كنت أقول له  سيارات , مبانى, محلات....إلخ كانت هذه دائما إجابتى. حتى نزل على رأسى لوح من الثلج حينما فاجأنى بقوله. تعرف أنا دايما أصحابى يقولوا لى بطل سخافة و بطل تسأل السؤال ده, بس إللى مش عارفينه إنى عمرى ما عرفت شكل الشارع و لا تخيلته. حتى لما حد بيقول لى محل أو مبنى مش قادر أتخيل الشكل ده.
شعرت بالخجل من نفسى كثيرا, و تغيرت من بعدها إجاباتى لتكون أكثر صبرا و مليئة أكثر بالتفاصيل

(18)
عارف أنا نفسى فى أيه؟
أيه؟
نفسى أكل أكل مصرى, أنا من ساعة ما جيت ألمانيا ما أكلتش أكل مصرى.. أضحك ضحكة قصيرة. ثم أقول له: أنا بعرف أطبخ كويس جدا, لو فى البيت عندى كنت عملت لك كشرى. يلتقط منى الحديث ويقول: أنا فعلا نفسى أكل كشرى. فتبدء رحلتنا للبحث عن محل كشرى فى واحدة من أكبر مدن ألمانيا

(19)
ممكن تقلب لى طبق الكشرى بتاعى... سؤال ألقاه الشاب على مسامعى
شعرت بعدها برغبة شديدة فى البكاء
(20)
إنتهى اليوم ثم إستقلينا معا القطار فى طريق العودة. ودعت الشاب فى محطة قطار المدينة التى أعيش فيها و أنا شخص أخر 
على الرغم من قسوة الأيام التى كنت أعيشها وقتها و على الرغم من مرارة  الأحداث التى كانت تلاحقنى فى تلك الأيام. كنت أشعر أن مشاكلى هذه لا شىء مقارنة بنعمة .واحدة حرم الله منها هذا الشاب لحكمة هو سبحانه وحده الذى يعلمها. أنا أؤمن تماما أن لا مجال للصدفة. فكل شخص, موقف, حدث, أو حتى مكان تزوره يكون لسبب و حكمة قد تعلمها الأن أو لاحقا. وقتها مباشرة أدركت الحكمة من هذا اللقاء.... مشاكلك التى تنغص عليك حياتك هى لا شىء مقارنة بيوم واحد فى الظلام
(20)
فى المسافة بين محطة القطار و بيتى
 كان الفجر ينسج خيوطه الأولى فى السماء
معلنا نهاية كل شىء... و الأهم
معلنا نهاية يوم فى الظلام

الثلاثاء، 22 أغسطس 2017

اللغم

(1)
 .... You Got to Keep Moving On
(2)
إحنا كلنا بشكل أو بأخر واقفين على اللغم و خايفين نتحرك لا يفرقع فينا.
(3)
لغم ايه اللى بتقول عليه؟
هاقول لك يا سيدى, بس اصبر عليا علشان الموضوع طويل حبتين. بس اهم حاجه انا طالبها منك, إنك تـ You Got to Keep Moving On
(4)
فى الحقيقة أنا بحب السينما جداً و كل فيلم بتفرج عليه, بكون مستنى منه رسالة أو حكمة ممكن أطلع بيها, و لو مالاقيتش اللى أنا عايزه ده, بحس ان وقتى و فلوسى ضاعوا. فى فيلم اتفرجت عليه من كام شهر عجبنى جداً و خلانى عايز اكتب عنه. و ديه حاجه نادره جدا, إن فيلم يشدنى اوى لدرجة إنى اكون عايز اكتب عنه. لظروف سفرى و إنتقالى للعيش فى ألمانيا, ما قدرتش للأسف اكتب عن الفيلم ده للسبب ده. مش كده بس, الحقيقة ان كل لما الوقت كان بيمر كنت بحس, إنى مافيش داعى للكتابة عن الفيلم, أو نقدر نقول إن حماسى للكتابة عن الفيلم كان بيقل تدريجياً. اللى حمسنى إنى اكتب عن الفيلم من تانى, هو واحد صاحبى و بدون قصد منه. الحكاية انه كان بياخد مشورتى فى قرار هو هاياخده يخص شغله و حياته, القرار ده فى مخاطرة كبيره. و أنا كنت ميال انه يتحرك و ياخد الخطوة ديه.... نرجع بقى لحكاية اللغم.
(5)
المكان: صحراء ما فى منطقة عربية على ما يبدو
الزمان: وقتنا الحالى بعد الظهيرة
الأحداث بتبدء ساخنة لما جندى المارينز الأمريكى مايكل و هو قناص بيحاول يغتال شخصية مهمه فى وسط الصحراء, و بيتردد لثوانى انه ينفذ المهمة لأن الشخص ده كان فى حفل عرس وممكن مدنيين أبرياء يموتوا أو يتأذوا. بيدور نقاش بينه و بين زميله اللى هو مساعد ليه و المفروض انه بيقول له اتجاه الريح فين و سرعته علشان يقدر يصيب الهدف بدقة. فجأة الحرس الشخصى للهدف بيكتشف مكانهم و بتحصل مطارده و فى الاخر مايكل و زميله بيقدروا يهربوا و يدخلوا مكان مكشوف.
(6)
شوية هوا يهبوا فى جو الصحراء الخانق و يرموا فى وش مايكل لافتة مكتوبه بالعربية و عليها علامة الموت. فمايكل يصرخ فى زميله انه يقف, لانهم من الواضح إنهم داخلين على حقل ألغام. زميل مايكل قرر إنه يتجاهله و يكمل مشى لأنه شايف ان مايكل فى كل قرارته "متردد" و "خايف", و هما من شوية كانوا فى مطاردة و مهمة فشلت بسبب تردده ده. بيدور نقاش اقرب للصراع بين الزميلين, و بوووووووووووم. لغم ينفجر وتتمزق معاه أقدام زميل مايكل لأشلاء. مايكل بيقرب منه علشان يساعده فبيسمع تكه ودنه الخبيره عارفها فبيتسمر مكانه.
(7)
الجو أصبح متوتر للغاية مع صراخ زميل مايكل و رعبه لما شاف رجليه الأتنين طاروا, وفى نفس اللحظة مايكل متسمر فى مكانه و مش قادر يتحرك لأنه دايس على لغم, و لو شال رجله من عليه هايموت. زميل مايكل بيفتح شنطته و يطلع منها صورة بنته يبص لها ويبوسها و يقول لمايكل انه بيحبها جدا و يطلع مسدسه و يموت نفسه و ماهمهوش صراخ مايكل اللى بيحاول يقنعه إن فى فرصة لنجاتهم,  هو ماقدرش يتحمل الألم و لا يتحمل فكرة إنه هايعيش طول عمره من غير رجلين أو فى أحسن تقدير بطرفين صناعيين. ده غير إنه شايف انه فى صحراء و فرص نجاته قريبه من الصفر. هو كان شايف إن الإنتحار هو الحل, و فى الحقيقة  الإنتحار عمره ما كان حل. هو اختار الهروب من مواجهة المشكلة.
(8)
 .... You Got to Keep Moving On
(9)
مايكل... انت لوحدك فى الصحراء و دايس على لغم, انت فى معركة مع نفسك و أوهامك و مخاوفك, فى معركة مع الطبيعة و مع لغم لو حركت رجلك فى الغالب هاينهى حياتك أو فى أحسن الأحوال هايسيبك معاق. و كمان فى مطاردة ما انتهتش مع حرس الراجل اللى انت كنت عايز تقتله. كل ده ضدك و انت لوحدك و يالا بقى ورينا شطارتك. الطبيعة ما انتظرتش كتير و قررت إنها تبدء معاك المعركة الأول و قبل ما تفكر فى خطوتك اللى جايه. عاصفة تهب و تيجى عليك بكل قوة وتحاول تحرك مايكل من مكانه, و بكل غريزة البقاء اللى جواه ينحنى مايكل على ركبته و يغرس بندقيته فى الأرض و يعملها مرتكز يمسك فيه بكل قوةعلشان الريح ما تحركهوش من مكانه. أحيانا بيكون مطلوب منك فى أعتى اللحظات إنك تنحنى علشان العاصفة تعدى, ده مش ضعف لكن ده ذكاء. لأن الطبيعى ان العاصفة أقوى من أقوى حد فينا و هاتغلبه مافيش شك فى ذلك.
(10)

بعد ما هديت العاصفة, بيبتدى مايكل يفكر ازاى يخرج من الورطة ديه, بيبص ناحية زميله بيلاقى العاصفة حركته بعيد عنه  شويه.بعد كده بيلاقى واحد بيظهر له من حيث لا يحتسب و واضح من ملابسه الرثه إنه من أهل الصحراء. الراجل بيبص ناحية مايكل و يلقى عليه التحية بتلقائية شديدة؟ مايكل بيستغرب و بيقول له انت مش شايف وضعى عامل ازاى. فالراجل يسيبه ويمشى وما يفرقش معاه صراخ مايكل اللى بيطلب المساعدة؟!
(11)

شوية تظهر بنت صغيره و باين من ملامحها إنها بنت الراجل الغريب ده اللى ظهر و اختفى. تعدى على مايكل و معاها قارورة ميه و تناولها له. فمايكل يشكرها جداً و يشرب منها. و يطلب منها تناوله جهاز اللاسلكى اللى كان مع زميله و حركته العاصفة بعيد عنهم. و تناولوا البنت الجهاز و تسيبه و تمشى زى أبوها... و تسيب مايكل مع حيرته, لخبطته و ورطته.
(12)

مايكل بيتصل بوحدته و بيكلم قائد كتيبته و بيشرح له الوضع, و لكن على الناحية التانيه واضح من كلام القائد إنه مش مهتم أوى. و بيقول له فى ما معناه انه فى حقل ألغام نشط و فى أرض معادية و فرص نجاته لا تتعدى الـ 7% و الاهم من كل ده, إن كل الفرق اللى عنده فى مهمات تانيه و صعب حد يجى يحاول ينقذه من فى الورطة اللى هو فيها. و بعد نقاش بين مايكل و القائد بتاعه, القائد يقول له انت جندى مارينز مدرب على إنك تتصرف فى المواقف اللى زى ديه لوحدك و انت ممكن تعمل حفرة تحت رجلك و تسحب اللغم و فى الحالة ديه اللغم هاينفجر و مش هايصيب الاجزاء الحيوية فى جسمه و ممكن تعيش. و إن فى وحده هاتعدى عليه بعد حوالى 52 ساعه ممكن تاخده معاها فى طريقها للكتيبة.... يا ترى كام مره مديرك فى الشغل أو شريكك فى الشغل أو أستاذك فى الجامعة أو حتى شريك حياتك ما اهتمش بالحوسه اللى انت فيها و لا باللغم اللى انت دايس عليه؟
(13)

الليل دخل على مايكل و التعب حله بيه و واضح ان الجو كان برد, فولع نار علشان يتدفى عليها. و على الرغم من إن النار دفته, لكنها جذبت إنتباه الديابه ليه. مره تانيه الطبيعة ممثله المره ديه فى الديابه ناويه تحسم معاه المعركة. يهجم ديب على رجله اللى دايسه على اللغم فيروح مايكل غارس فيه الخنجر, و يجى ديب من امامه فيضرب عليه النار من مسدسه و يموته و ينهى المعركة بدرى لأن صوت الرصاص خوف كل الديابه... أحياناً الحسم بيكون مهم علشان تنهى معاركك الخطيره بدرى بدرى.
(14)
الصبح تنفس..
و مايكل باين عليه الأجهاد الشديد, لأنه نايم على نص ركبه اللى هى دايسه على اللغم و ساند بدراعه العكسى على بندقيته . بيبص لقى الراجل الغريب ده ظهر له تانى, و بطريقة كوميدية يمشى فى مسارات متعرجه كأنه عارف أماكن الألغام و يقرب من مايكل. فمايكل يسأله أنت عارف أماكن الألغام, فالراجل يقول له مين قال إنى عارف اماكنها؟! مايكل فى عز تعبه و إرهاقة و حيرته ما ينساش يشكر الراجل إنه بعت بنته علشان تشربه ميه. الراجل يبص له و يضحك و يقول له واضح ان الصحراء لعبت بدماغك. الحيرة تبان اكتر على وش مايكل, و يطلب من الراجل إنه يساعده فيبص له و يضحك و يقول له You Got to Keep Moving On و يسيبه و يمشى!!
(15)
الشمس حارقة والتعب و ملامح الأرهاق الشديد بدأوا يبانوا على مايكل و فجأة يلاقى زميله ادامه؟ ايه ده؟ انت مامتش؟؟ يقول له لأ و تبدء مجموعة خيالات و أوهام تلعب بعقل مايكل. بعد شويه يلاقى نفسه فى بار فى أمريكا و حبيبته واقفه شغاله فى البار و هو قاعد على ترابيزه و مستنيها تخلص شغلها. يفتكر كلامها إنها نفسها إنه يبقى واحد من الرينجرز أو فرقة الخياله و ديه صفوة الصفوة فى الجيش الأمريكى. فيقول لها أنا فى المارينز فترد عليه فى ما معناه ان الرينجرز هما الأفضل. يرجع تانى للبار و مجموعة من الرينجرز يتحرشوا بحبيبته فتقوم بينهم خناقة ولانهم اكتر و اقوى يتغلبوا عليه, او على الأقل بان كده!
(16)
يفوق مايكل من الغفوة و الخيالات ديه و يجى له الراجل غريب الاطوار ده تانى و يقول له أنت اسمك ايه؟ يقول له مايكل.. يرد يقول له مايكل.. زى ماويكل؟ و يضحك.. غريب الراجل ده جدا فى وقت زى ده و مش عايز يساعده و كمان جاى يهزر و يتريق على أسمه. يدور حوار قصير و بعدين يسيبه و يمشى و يقول له ..You Got to Keep Moving On!!
(17)
الليل يجى و المره ديه الديابه تيجى و مقرره انها تخلص على فريستها فتهجم عليه فى هجوم يبدو منظم او منسق من قبل. ديب يمسك فى ايده (الظروف) و واحد تانى يهجم على رجله اللى دايسه على اللغم (المجتمع) و ديب تالت يهجم عليه من ضهره (نظرة الناس) و ديب رابع يهجم علي رجله التانيه (الخوف) و خامس و سادس فى معركة غير متكافئة, و كل ديب بينبش سنانه فى جسمه كأنه واحد من فرقة الخيالة اللى هجمت عليه فى البار لما اتحرشوا بحبيبته, يعافر مع الديب و كأنه بيوجه ضربه لراجل من فرقة الخيالة. يرد له الضربه وكأن ديب غرس سنانه فى جسمه. خلاص مايكل مش قادر و بدأ ينهار و بصوت خافت يقول لحبيبته سامحينى انى خذلتك. وباين من مشهد المعركة إنه خلاص خسر, و لا هو عرف يكسب الديابه و لا عرف يكسب فرقة الخيالة و اللى كان هايتبعه إنبهار حبيبته بشجاعته. وقرر إنه ينهى حياته و فى اللحظة اللى هايضغط فيها على الزناد.... يتحول الليل لنهار و يبدو وكأن مايكل كان بيحلم, و يلاقى الراجل الغريب بيسنده قبل ما يقع. يفوق و يبص يلاقى إن الراجل ده رجله خشب!!
(18)
رجل خشب؟؟
الراجل اللى طول الوقت عمال يهزر بيبان إنه ضعيف جدا من جواه, يحكى له إن شغلته كانت إنه يدورعلى الالغام و يفككها هو و بنته و يبعها للى يشتريها. و فى مره وهما بيحفروا لغم طار موت بنته و طير رجله معاها. مايكل يسأله انت عندك بنت تانيه غير اللى شربتنى الميه فيقول له لأ مافيش غيرها! يقول له طب ارجوك ساعدنى يبص له ويقول له و هو بيتحرك 
You Got to Keep Moving On!
(19)
كيف تنظر في عيني امرأة..
أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها؟
كيف تصبح فارسها في الغرام؟

مرة تانيه أوهام مايكل تهاجمه فجأة يلاقى بيت أتبنى حواليه فى الصحراء, و بعدها يرجع تانى لأمريكا فى البار و خناقته مع فرقة الخيالة. يفتكر مره انه كان هايخسر حبيبته بسبب خلاف بينهم, و انها سابت له البيت بعدها, و ازاى هو تعب لما سابته لأنه كان متعلق بيها أوى. و بكل قوته ينتفض من تحت فرقة الخيالة و يبتدى يتغلب عليهم فى اللحظة اللى اتخلص من الديب الاول, و يتغلب على الخيال التانى و معاه الديب التانى. كله ده و صوت حبيبته فى ودانه بتحمسه و بتشجعه. مايكل اتغلب على الديابه و على فرقة الخيالة. شويه يسمع صوت ضرب نار و يلاقى نفسه تانى فى الصحراء, يلاقى حرس الراجل اللى كان عايز يقتله فى الأول بيحاولوا يموتوه, و بسهوله و لانه قناص مدرب يموت واحد منهم يبص يلاقى الفرقه اللى كانت المفروض تعدى عليه ماشيه من بعيد يفضل يصرخ علشان يسمعوه و بعد شويه ياخدوا بالهم ويروحوا ناحيته و يساعدوه فى انهم يقتلوا الناس اللى بيضربوا عليه نار.
(20)
الفرقة تقرب من مايكل و تحاول تساعده انهم ينزعوا اللغم من تحته و فى لحظة.... تتحرك رجل مايكل من على اللغم... و الكل يجرى بعيد عن مايكل و اللغم.ووووو... فى الحقيقة إن مايكل ما ماتش؟؟! لأنه طول الوقت ما كانش دايس على لغم, هو كان دايس على علبه صفيح و لما حفر و طلع اللى جواها, لقى فيها عسكرى بلاستيك كانت بتلعب بيه بنت الراجل الغريب اللى ماتت؟؟؟!
(21)
الفيلم انتهى ان مايكل رجع بلده و هو معلق فى رقبته العسكرى البلاستيك و ماسك فى ايده صورة ابن زميله اللى موت نفسه. أنا فى الحقيقة مش هدفى من كتابة البوست ده إنى احكى الفيلم اللى ممكن بسهولة حضراتكم تشوفوه, لكن انا عايز اوصل شوية رسائل.
الرسالة الأولانيه اللى كنت بسألها لنفسى بعد ما الفيلم خلص, ليه الراجل الغريب ده سابه كل الوقت ده بيعانى فى الصحراء و هو عارف إنه واقف على علبة صفيحة مكان ما بنته ما ماتت؟ ليه لما مايكل كان هايقع سنده, مع ان ببساطه لو وقع , كان هايعرف انه مش واقف على لغم؟ بعد تفكير لاقيت إن اللى الراجل عمله مع مايكل ده, يمكن تكون أحسن حاجه حصلت فى حياته. لأنه عراه ادام نفسه و خلاه يقدر يتغلب على كل مخاوفه و قدر حتى و لو فى خياله يغلب فرقة الخياله اللى حاسس انهم أقوى منه. فى الحقيقة الحياة بتعمل معانا كده, بتسيبنا لحيرتنا و خوفنا و إحنا واقفين على اللغم و خايفين نتحرك لا يفرقع فينا, مش بتدينا تفسير, لكن بتسبنا نتعلم و أحيانا ده بيكون بشكل قاسى جداً!
الرسالة التانيه إن كلنا واقفين على ألغام كتيره فى حياتنا معطلانا إننا نتحرك لقدام. لغم الخوف من التجربة, لغم الخوف من عدم الإستقرار, لغم الخوف من إنهاء علاقة غير مستقرة مبوظه لنا حياتنا, لغم الناس شايفانى إزاى و بتقول عليا إيه, لغم الإحباط و اليأس. الألغام كتير و كل واحد منا مستنى اللى يجى يساعده علشان يشيل رجله من على اللغم من غير ما ينفجر فيه. أرجوك كل لما تفكر فى كده, افتكر إن الراجل مارضيش يساعد مايكل, علشان كان عايزه إنه هو اللى يساعد نفسه.
الرسالة التالته, مايكل كان شايف انه علشان حبيبته هو ممكن يدخل فى معركة غير متكافئة مع فرقة خياله هم اكتر منه عدداً و قوة, كان حلمه إنه يقنع حبيبته إنه يستحقها. قول لى أنت بقى عملت إيه علشان حلمك؟ حاربت؟ عافرت و لا أستسلمت لما كل الديابه هجمت عليك زى ما حصل لمايكل فى الفقرة الـ 17؟
الرسالة الرابعة و الأهم
  افتكر دايما إن اهم حاجه تعملها فى حياتك إنك تتحرك.. إنك....
You Got to Keep Moving On
----
ملحوظة: انا حكيت كل الأحداث من الذاكرة فممكن يكون التسلسل الدرامى للفيلم مختلف شوية
الفيلم للى حابب يتفرج عليه إسمه The Mine و هو من إنتاج 2016

الجمعة، 17 فبراير 2017

أحبوا الموت حبكم للحياة

(1)
أنا بحب الموت.. خضك العنوان مش كده؟
و يمكن كمان أدالك إنطباع عن الكلام اللى جاى. غالبا انت متخيل انك هاتقرا كلام عن واحد مكتئب و حياته بائسه و يمكن كمان مقبل على الانتحار.
فى الحقيقة العكس هو اللى صحيح تماماً, انت بتقرا كلام لواحد مقبل جداً على الحياة و عنده إيمان بربنا و طاقة أمل لا تنضب بتغير الأيام و الأحوال و الأشخاص.
أومال ايه؟

(2)
هاقول لك يا سيدى... انت عارف من ساعة ما قريت الكلام ده حتى هذه اللحظة كام خلية فى جسمك ماتت؟ طب عارف كام ورقة شجرة دبلت و وقعت من على الشجر, طب بلاش كام نجمة فى مجرتنا, مجرة درب التبانة, أو فى أى مجرة تانيه بعيدة او قريبة منا ماتت؟ انت عايز تقول ايه؟
(3)
إحنا اتربينا ان الموت ده حاجة وحشة بتخطف مننا حياتنا, أو حياة الناس الغاليين علينا, أو حياة الناس التانية اللى ما نعرفهمش. لكن عمرنا ما فهمنا إن الموت ده جزء من تركيبتنا النفسية و الجسدية. عمرنا ما قبلنا الموت على إنه حقيقة لا مفر منها و أول ما بتيجى سيرته صدورنا بتضييق و بنعتوذ من ربنا و نقول فال الله و لا فالك و الكلام اللى كلنا عارفينه ده.
(4)
أنت عايز تقول أيه؟
أنا طول عمرى بستغرب الناس اللى حواليا, أى حد لما اقول له لو مت ممكن تدعى لى. أو أساله مثلا و اقول له ارجوك ما تزعلش منى لو قضاء ربنا نفذ ومت و مالحقتش أعتذر لك. دايما بلاقى اجابات بتحوم فى فلك الكلام اللى ختمت بيه الفقرة اللى فاتت. كنت دايماً بستغرب من ردود الأفعال ديه. لأنى دايما منتظر الموت فى أى لحظة و مش خايف منه. لأن أنا مقتنع أن الموت مش حاجة وحشة. كنت أوقات كتير بحس أنى حد غريب أو بقول كلام بيضايق الناس اللى حواليا فى مفهومى عن الموت. من كام يوم قريت كتاب رائع اسمه "علاقات خطرة" لمؤلفه الدكتور محمد طه. الكتاب فيه فصل بيتكلم عن الموت, و فيه كلام شبه اللى انا بقوله ده بس بمنظور علمى نفسى, و الكتاب كله وجبة نفسية ممتعة للى حابب يقراه. الكتاب ده الصراحه شجعنى إنى أكتب الكلام ده, لأن فى أوقات كتيرة بنحس إننا أغراب لحد لما نلاقى حد شبهنا.
ماشى وبعدين؟...
(5)
هاقولك....
انت لما يكون عندك حلم و تتخلى عنه فى حته جواك بتموت. لو حد انت وثقت فيه جداً و بيخذلك فى حته جواك بتموت. لو هاجرت و بعدت عن أهلك و بلدك فى حتة جواك بتموت. خيبات الأمل و الإنكسارات و المرارات النفسية, الغضب, الإحباط, و اليأس كل ديه حاجات بتموت جواك حتة و تفضل كل يوم تفقد حتة فى حتة لحد لما جسمك يقرر يتخلى عنك و هو كمان يموت.
خلصت؟
(6)
لسه..
فاكر ورقة الشجرة اللى كلمتك عليها فى الفقرة الثانية..
أنت عارف إن الورقة اللى وقعت ديه بعد فترة هاتتحول لسماد عضوى يغذى الشجرة الأم اللى وقعت منها؟
طيب فاكر التجربة النفسية القاسية اللى انت مريت بيها؟ بلاش فاكر الحد اللى خذلك بمنتهى الخسة و الندالة اللى فى الدنيا كلها. مش انت بعد كل ده رجعت أقوى نفسياً و أذكى إجتماعياً و بتشم ريحة الغدر من على بعد أميال؟
الموت بيعمل فينا كده, الموت بيوهبنا حياة جديدة. أنت لما بتموت بتنتقل لعالم أخر و هو عالم البرزخ. معلوماتنا عن العالم ده بسيطة و قليلة, لكن المعلومة الأكيدة اللى إحنا عارفينها عنه انك لو عملك صالح فى الدنيا أكيد هاتكون إن شاء الله فى برزخ محمود و حياة أفضل من الحياة الدنيا. يعنى خلى بالك ما تكسرش قلب حد, ما تسرقش الأمل من حد. ما تخليش حد يعيش موقف صعب من المواقف اللى فى الفقرة الخامسة علشان يكون موتك فيه حياة أفضل ليك فى عالم البرزخ المحمود
(7)
أنا طول عمرى منتظر الموت و ظنى بربنا الملك الرحيم, انى هاكون فى برزخ محمود. عمرى ما خفت من لحظة موتى, بالعكس أنا كل يوم بصحى و فى دماغى طموحات و أحلام لتغيير العالم و معاها رغبة حقيقة إنى أموت!!
(8)
الحاجة الوحيدة اللى بتوجعنى و بتخوفنى... هو موت الناس اللى بحبها. فى فترة صعبة من حياتى دايرة الناس اللى بتحبنى و اللى انا بثق فيهاعمالة تصغر. بيبقى موت حد من الغاليين عليا حاجة صعبة جدا كل يوم بتموت جوايا حتة خوفاً من فكرة الفقد ديه.
(9)
أفتكروا دايماً أن الموت مش عكس الحياة, بالعكس الموت مرادف أخر للحياة
الموت مش دايماً وحش.
الموت يعنى حياة جديدة و بعث و نشور.
الموت يعنى أمل و حياة جديدة, و بكرة أحسن.
الموت يعنى إنتهاء الصعب, و بداية السهل بس بشرط تنجح فى الأختبار. يعنى ذاكر كويس يا كابتن.
(10)
أنا مش هالاقى حاجه اختم بيها الكلام ده, احسن من الفقرة ديه
أجمل حاجه فى الموت, أننا هانقابل ربنا و سيدنا النبى.... فيارب أجعل خير أيامنا يوم أن نلقاك فيه.

الخميس، 18 فبراير 2016

البوصلة

(1)
ربنا سبحانه و تعالى رحيم جداً بعباده. ربنا عارف إن الطريق إليه صعب أوى و مليان عثرات, و علشان يهون علينا الطريق ده بيبعت لنا ناس تورينا الطريق. أول ناس بتخلى بالها عليك فى الغالب بيكونوا أبوك و أمك. أنا كنت و الحمدلله رزقى واسع فى الحتة ديه. فتحت عينيا على أب و أم عمرهم ما فكروا فى نفسهم أكتر ما فكروا إنهم يربونى أنا و أخواتى تربية كويسه. كانوا دايماً مهتمين إنهم يعلمونا معانى العزة و الكرامة. ممكن هما ما قدروش يوفروا لنا حياة كريمة أوى, بس هما وفروا لنا حياة شريفة. زرعوا جوانا معانى كبيرة جداً ثقلها الذهب. علمونا إننا نرضى برزق ربنا القليل و نشكره على رزقه الكتير. علمونا نحب الناس و نحترم الجميع.... فى تدوينات جايه إن شاء الله هاتكلم فى الموضوع ده تفصيلاً.
(2)
يونس جاد المولى... مدير عام الوعظ بمحافظة الجيزة.
تخيل كده لما تكون طفل عمرك لا يزيد عن 8 سنوات و تتربى على أيد عالم ربانى زى الراجل العظيم ده. شخصية نادرة الوجود, كان دايماً رحمة الله عليه بيقول لى "أنا عمرى ما بنسى أتنين الطالب الشاطر و الطالب المشاغب و اللى ما بينهم فى الغالب بنساه" كان دايماً شايفينى واحد من أفضل طلابه, و حتى بعد ما سبت المدرسة اللى هو كان بيدرس لى فيها. كان رحمة الله عليه لما يقابلنى فى الشارع مهما كان مستعجل يقف و يسلم عليا و يتطمن على أخبارى. أنا فاكر يوم ما عرفت خبر وفاته, كأنه إمبارح. بعدها حسيت إنى تايه لفتره, هى الحمد لله ما كانتش فترة طويلة.... ديه تدوينة تانية هاتكلم فيها عن علاقتى بالأستاذ رحمة الله عليه.
(3)
ربيع 1997, ملاعب كلية الزراعة- جامعة القاهرة....العام الدراسى الثانى
الكلية كانت بتنظم فكرة وقتها جديدة من نوعها. كان فى رائد إتحاد لسه متعين جديد, عنده طاقة شاب فى العشرينات. و واقف وراه عميد كلية عايز يعمل لنفسه تاريخ و كان لسه متعين جديد بردو. الكلية كانت بتنظم حدث أسمه لقاء الأجيال. الحدث ده كانت فكرته إن الكلية تدعو كل خريجى الكلية على مر العصور للإلتقاء بالطلبة الحاليين. كانت الفكرة إن الأجيال الجديدة تتعلم من تجارب الأجيال القديمة, و إنها تكون فرصة لإستعادة الذكريات الجميلة. أنا كنت متحمس جداً إنى أشارك فى تنظيم الحدث ده, كان واضح إنى أتاخرت أوى فى طلب المشاركة. بس الأقدار كانت مخبية لى خطط تانية. قدراً كان فى موظف فى رعاية الشباب أسمه أ. صابر كان مسئول عن حاجه معينه فى التنظيم و كان عايز طلبة معاه يساعدوه فيها. فقلت له انا عايز اشتغل معاك فى الحتة ديه, فرحب بيا جداً و من ساعتها أصبحت العلاقة بينا جيدة. و كان دايماً بعدها يقول لى أنت من العيال الجدعة اللى أنا مش ناسيهم من ساعة لقاء الأجيال.
(4)
اللقاء نجح ناجح باهر و كان واضح إن الكلية داخله على مرحلة مهمة جداً فى العمل الطلابى. وقتها اتعرفت على الأستاذ, هو فى الحقيقة أنا كنت اتعرفت عليه وقت تنظيم اللقاء بس كان تعارف سريع لأنه كان مشغول جداً. بعد ما اللقاء خلص صديقى العزيز الذى فرقتنا ظروف الحياة أيمن يونس كان داخل رعاية الشباب وقال لى تعالى معايا.أيمن يونس كعادته بيخطفك, و فى الغالب ما تبقاش عارف انت رايح معاه على فين و لا هاتعمل أيه. بس رصيد الثقة اللى ما بينا طول عمره كان و مازال كبير أوى, و من غير ما أفكر مشيت معاه. دخلنا مكتب الأستاذ و وقتها أ. صابر كان موجود معاه, فأيمن يونس بيعرف الأستاذ بيا, و أول كلمة قالها لى .... "أهلاً يا حسن" صوته العميق المميز و نظرته المتفحصة من خلف النضارة لسه بيرنوا جوايا لحد اللحظة ديه. فضلت بعد كده و لسنين طويله لما يسلم عليا أسمع نفس الجملة بنفس النبرة. نظرته كده مش نظرة واحد عادى, ديه نظرة واحد خبير بالحياة و الناس عايز يعرف مين الشخص اللى بيكلمه. وقتها تدخل أ. صابر و قال له نفس الجملة "حسن ده من العيال الجدعة اللى أشتغلوا معايا فى لقاء الأجيال" فلمحت فى وش الأستاذ إبتسامة خفيفة كده, و كأنه بيقول لى أنت هاتبقى من رجالتى فى المرحلة اللى جاية.
(5)
الأستاذ الدكتور أحمد نجيب السيد شرف....
أنت لازم تقول الأسم كله على بعض كده. فاكر و انا طالب فى الثانوى كان بيدرس لنا مدرس إنجليزى أسمه بولس. فى مرة قال لنا أن كتاب الروايات و الأعمال الأدبية دايماً لما بيختاروا أسماء أبطالها بيختاروا أسماء تعبر عن شخصيتهم. يعنى مثلاً لو بطل العمل أسمه شاكر فغالباً هاتلاقيه طول الرواية بيشكر ربنا على كل حاجة. الحكاية ديه تنطبق تماماً على الأستاذ. شخصية نجيبه جداً و ذكية جداً كل من عرفوها أحبوها. أنا ما شوفتش فى حياتى شخص الناس أجمعت على حبه زى الراجل ده. أحمد نجيب ما كانش ملاك, لأ, أحمد نجيب كان بشر. لكنه كان بشر ليس كمثل كل البشر. كان بداخله الكثير من الخير و الحب للناس و الحياة. كان بيحب ولاده أوى, ولاده المقصود بيهم هنا الطلبة. كانت جملته الشهيرة اللى بيقولها لنا دايماُ " أنتم زى ولادى"..فى أشد لحظات إنفعاله علينا, كان بيبقى حب و حرص أب على عياله. كنا دايماً بنشوفه بيصرف فلوس من جيبه على حاجات تخص شغله فى الكلية. وكنا بنستغرب جداً من ده. كان إنسان بمعنى الكلمة حريص على ولاده الطلبة و موظفى الكلية و على أسم و مكانة الكلية. المواقف و الذكريات مع الأستاذ أمتدت لما يقرب من عشرين سنة, كنت دايماً و ما زالت أنظر إليه بكل تقدير و إحترام حتى و لو أختلفنا فى وجهات النظر.
(6) 
كلية الزراعة- جامعة القاهرة الفترة من 1997 حتى 2000  
مش عارف أقول الصراحه مين اللى كان محظوظ أكثر, جيلنا من الطلاب و لا الدكتور أحمد نجيب. الدكتور أحمد رحمة الله عليه أصبح رائد لإتحاد الطلاب بعد دخول دفعتنا الكلية بسنة بالظبط. هو كان قبلها رائد للجنة الرياضية و حقق نجاحات مبهرة مع اللجنة ديه وده اللى أهله إنه يبقى رائد الإتحاد. دفعتنا كانت مليانه مواهب فى كافة الأنشطة الطلابية فى الفرق الرياضية و الأنشطة الفنية و الثقافية و غيرها. أنا أتصور إن الدفعة ديه تحديداً لو كانت مع أى رائد إتحاد تانى ما كانتش هاتتوهج و تبان مواهبها كده. و فى نفس الوقت الدكتور أحمد رحمة الله عليه, قدر فعلا إنه يبرز المواهب ديه بالشكل الأمثل.
(7) 
السنة الثالثة ليا فى الكلية خلصت بس الصراحه هى كانت سنة غير عادية. فى السنة ديه إتحاد الطلبة قدر ينظم مهرجان للأسر مبهر و غير عادى. و فى الفترة ديه كانت علاقتى بالدكتور أحمد كانت بتكبر كل يوم عن اللى قبله. كنت بحس كده إن الكيمياء ما بينا بتزداد تناغم مع الوقت. إحنا كنا مجموعة كبيرة من الطلبة اللى بتشارك فى الانشطة و كانت المجموعة كلها على أعلى مستوى. ولكن علاقتى تحديداً بأيمن يونس و الصديق الغالى محمد شعبان و شغلنا فى الأنشطة الطلابية مع بعض ساعدنى كتير إن شغلى كطالب نشاط يبان. فى الحقية إحنا التلاته كنا بنحب الدكتور أحمد حب غير عادى و مهما إتكلمنا عنه الحب ده ما حدش هايفهم الراجل ده كان بالنسبة لنا إيه. و فى نفس الوقت الدكتور أحمد كان بيحبنا جداً و بيقدرنا جداً, حتى لما العلاقة بينا أتوترت لفترة فضل ينظر لينا نفس النظرة.
(8) 
نجاح مهرجان الأسر كان فاتحة خير لناس كتير و كنت أنا منهم. رعاية الشباب كانت هاتنظم رحلة لشرم الشيخ بأسعار مخفضة, و فى الوقت ده شرم الشيخ بالنسبة لجيلنا كانت حلم بعيد المنال, لأنها ما كانش حد بيعرف يدخلها أصلاً ده غير أن الفنادق فيها غالية. تم ترشيحى للرحلة ديه و فعلاً أسمى إتكتب فى الكشوف النهائية. كان فاضل بس توقيع الدكتور أحمد, لكنه شطب أسمى و أستدعانى لمكتبه. و بص لى كده و قال لى أنا شطبت أسمك من الكشف و فى حد هايطلع مكانك علشان فى حاجه تانيه أحسن انا عامل حسابك فيها. على الرغم من إنى كان نفسى اروح الرحلة ديه. بس أنا كنت سعيد جداً إن الدكتور أحمد بيفكر كده, إنه شايف إنى أستحق حاجة أحسن. و ما كانش عندى ذرة شك وقتها إن الرحلة ديه لو راحت هايكون فى حاجة أحسن ولا لأ. لأن الدكتور أحمد كان محل ثقة الجميع!!
(9) 
صيف 1999... مكتب رعاية الشباب- كلية الزراعة جامعة القاهرة  
بعد أيام قليلة أيمن يونس بلغنى إن الدكتور أحمد أختارنى أسافر معاه سوريا!! أنا كنت فرحان جداً بطريقة فوق الوصف. الدكتور أحمد كان شخصية عملية جداً, أول ما شافنى قال لى كلمتنى "جهز باسبورك علشان أنت طالع معايا سوريا". رحلة سوريا ديه كانت من العلامات الهامة و الفارقة فى حياتى. أنا كنت أول مره أسافر بره مصر و كان وقتها عمرى 19 سنة. كانت حاجه كده زى الحلم, و اللى مخلينى مبسوط أكتر ان ديه كانت تانى سنة الكلية تتطلع فيها وفد طلابى لزيارة سوريا. المنافسة كانت وقتها شديدة, لأن كان فى طلبة كتير جداً فى الحقيقة يستحقوا يسافروا. أختيار الدكتور أحمد ليا أنا شخصياً, إنى أطلع مع المجموعة كان له فى نفسى أثر كبير جداً. أنا ما زلت حتى هذه اللحظة أتفاخر بإختيارى لهذه الرحلة. الرحلة كانت تفاصيلها كتيره جدا و فى الحقيقة محتاجه تدوينات كتيره جداً. لكن أنا عايز اتكلم عن أهم موقف حصل لى مع الدكتور أحمد فى الرحلة ديه. الدكتور أحمد أول ما وصلنا سوريا سابنا و سافر أمريكا, لأنه كان عنده حاجه هناك لازم يخلصها. وبعد حوالى 5 أو 6 أيام رجع لنا على سوريا. الحقيقة هو كان غاضب جداً و مستاء من تصرفات بعض الزملاء. أجتمع بينا و كان إجتماع عاصف جداً, و لأن أحمد نجيب شخصية قوية جداً و حازمة جداً. كلنا بالمعنى الحرفى للكلمة و بلا إسثناء كانت ركبنا بتخبط فى بعضها من الخوف و الرهبة من الأستاذ. هو كلمنا عن مواقف حصلت من بعض الزملاء و كان قاسى جداً فى رد فعله معاهم, و كلنا كنا شاعرين بإحراج شديد و زعلانين جداً, لأنه كان زعلان جداً. الجميل فى الموضوع, إن الدكتور أحمد أعطانى من جيبه الخاص 200 ليرة سورية و قال لى أمام كل الزملاء "حسن من العيال المحترمة اللى سلوكهم كان رائع, و يا ريت كلكم تعملوا زيه" أنا جوايا كانت طاير من الفرحة, بقى أنا الدكتور أحمد مبسوط منى أوى كده... حتى هذه اللحظة أنا أعتز ما بينى و بين نفسى بهذه الشهادة.
(10) 
خريف 1999... ملاعب كلية الزراعة  
الكلية أيام الدكتور أحمد كانت عامله زى خلية النحل. تقريباً ما كانش فى يوم بيعدى علينا إلا و كان فى فاعلية أو نشاط طلبى نعمله. فعلاً و صلنا لمرحلة إننا كنا بنقعد فى الكلية أكتر ما كنا بنقعد فى بيوتنا. كانت الأيام كلها بهجة و نشاط و تنافس شديد جداً فى إبراز المواهب و الملكات. بعد ما رجعنا من سوريا, الدكتور أحمد كان عامل للطلبة اللى كانوا فى سوريا لقاء كده فى ملاعب الكلية و كان حاضر معانا الدكتور صلاح الأمير رحمة الله عليه. و بعد ما اللقاء خلص, قال لى أنا عايزك يا حسن. أنتظرته طبعاً لحد لما جيه ماشى فركبت معاه عربيته أنا و أيمن يونس. و قال لأيمن, أنا عايزك تجهز لى قايمة إنتخابية و تحط حسن فيها أمين لجنة الأسر. مش عايز أقول لكوا أنا كنت إزاى طاير من الفرحة, على الثقة ديه.
(11)
فى وقت ما عام 2000... السنة الرابعة و النهائية بالكلية
قايمتنا الإنتخابية كسبت الإنتخابات, و مجموعتنا كلها دخلت إتحاد الطلبة. بصراحة الحماس و الطاقة قلت لإن ديه كانت سنة التخرج لمعظمنا و كنا محتاجين نركز شوية فى المذاكرة. فى السنة المؤلمة ديه, حصل موقف سىء للغاية. حتى هذه اللحظة أنا شخصياً على الأقل و أظن إن الكثير مننا ما يعرفش أيه اللى حصل بال[ط. فجأة العلاقة بين أيمن يونس و محمد شعبان و أنا أتوترت جداً مع الدكتور أحمد نجيب. أنا مش حابب أخوض فى تفاصيل المشكلة اللى حصلت لكن أنا هاتكلم عنها هنا بس لأن بعدها حدثت فجوة بين الدكتور أحمد و بينا إحنا الثلاثة أنا شخصياً بتألم جداً لما بتذكرها.
(12) 
الفترة من 2000 إلى 2007  
كلية الزراعة بالنسبة لى عمرها ما كانت مكان درست فيه و علاقته بيا إنتهت مع التخرج و خلاص. كلية الزراعة فى قلبى ليها مكانة خاصة, لإنها بلا منازع أكتر مكان بحبه فى مصر. المكان ده كان شاهد على أجمل و أمتع أيام عمرى كلها بلا جدال. فى فترة دراستى بالكلية كنت مستمع تماماً بكل لحظة فى وقتى. فى الحقيقة أنا ما كانش طموحى إنى أدرس الزراعة, و هى كانت فى ترتيب الرغبات بالنسبة لى رقم 5. و على الرغم من كده الدراسة بالنسبة لى فيها كانت ممتعة. اللى ناس كتير مش عارفاه إن الدراسة فيها صعبة جداً و مرهقة جداً, على عكس الصورة الذهنية المرتبطة فى دماغ الناس, إنها بتطلع فلاحين برخصة و الكلام الظريف أبو دم تقيل ده. بعد التخرج أنا فضلت مداوم على زيارة الكلية كل لما ظروفى تسمح بده. و الأسباب كتيره جداً و على رأسها إنى بحب المكان ده بجنون و كل ركن فيه ليه معايا ذكريات. و لأن كان ليا فى الكلية زمايل لسه ما تخرجوش. و طبعاً فوق كل ده, إن الدكتور أحمد كان موجود لسه كأستاذ فى الكلية. المؤلم فى الموضوع إن الدكتور أحمد كان ساب الإتحاد فى السنة اللى إتخرجت فيها لإن الدكتور سمير أبو الروس عميد الكلية الرائع طلع على المعاش. و العميد الجديد كان شايف إن الدكتور أحمد مش مناسب للمرحلة الجديدة. فى الحقيقة النقطة ديه كانت صحيحة ميه فى الميه. لأن الكلية تخلت عن الطالب تماماً و أصبحت كثير من الخدمات اللى رعاية الشباب كانت بتقدمها للطلبة بالمجان أصبحت بفلوس. الكلام ده كان عكس رؤية الدكتور أحمد. الأسوء من ذلك إن الكلية أصبحت أقرب منها من مكان للعلم إلى مجرد نشاط إقتصادى. فؤجنا مثلاً إن أشجار كتيره تم قطعها و بيعها علشان تتبنى مكانها كافتيريا جديدة و تفاصيل كتيره ما كانتش صح من وجهة نظرى. الأسوء على الإطلاق هو غياب الروح من الكلية فالأنشطة الطلابية أصبحت معدومة و إتحاد الطلاب أصبح هزيل للغاية و لا يقدم خدمات جيدة للطلاب. هذا الكلام ليس المقصود منه الأساءة إلى أحد أبداً فجميعهم أستاذتنا و لهم منا كل التقدير و الإحترام, و لكن فى رأى أنها نقاط تسجل للأستاذ, الذى كان الطالب عنده له الأولوية.
(13) 
أواخر عام 2009... أوائل عام 2010  
كنت لسه راجع من أمريكا طازه بالتيكت بتاع المطار. أنا بعد ما رجعت من أمريكا فقدت روحى كثير من رونقها و إشراقها. أنا عارف إنى بقيت حد تانى غير أنا اللى كنت عليه. الصدمة الثقافية اللى حصلت لى و حتى لحظة كتابة هذه السطور أحدثت بداخلى هزة عنيفة و ما زالت تبعاتها إلى الأن. كان طبيعى جداً إنى اروح أزور المكان اللى أنا بحبه, يمكن اقدر استعيد شوية من عافيتى النفسية و الذهنية. و كمان كان فى سبب تانى و سبب مهم جداً, و هو إن الدكتور أحمد أصبح رسمياً عميد للكلية. طبعاً ما كانش ينفع أفوت حاجة زى كده و كان لازم طبعاً أروح أبارك له على النقلة المهمة ديه و اللى اتأخرت أوى. و أنا داخل لمكتبه قابلت تلميذ الدكتور أحمد الصديق العزيز الدكتور عبد الهادى. و اللى كعادته رحب بيا بحكم سنين العشرة و الصداقة و الأخوة اللى كانت بينا من أيام الأنشطة الطلابية. لما دخلنا مكتب الدكتور أحمد عبد الهادى قال له يا دكتور أحمد حسن لسه جاى من أمريكا لأنه كان بيدرس هناك و جاى يسلم على حضرتك و يبارك لك. بص لى كده نظرة فيها الكثير من الأحترام و قال لى أول كلمة قالها لى فى أول لقاء بينا بنفس الصوت و نفس النظرة و بنفس الأحاسيس "أهلاً يا حسن". دار بينا حديث قصير و قلت له يا دكتور الخطوة ديه اتأخرت أوى لأن مكان حضرتك الطبيعى هو منصب رئيس الجامعة , حضرتك شخصية إدارية من الطراز الأول و كلنا من و إحنا طلبة ده رأينا. طبعاً هو شكرنى بتواضع شديد على الكلام ده كعادته, بس أنا فعلا ً ما كنتش بجامله أبداً لأن هى ديه الحقيقة وده رأى. ثم قال لى جملة هامة جداً و كان هذا أخر ما سمعته منه رحمة الله عليه... "إحنا أشتغلنا مع بعض كتير و حتى لما إختلفنا فضلنا نحب بعض روحتوا و جيتوا بس دايماً كنتوا بتسألوا عليا سواء أنت أو أيمن يونس أو محمد شعبان".... قد أكون لم أره بعدها لمدة 6 سنوات عصيبة و لكن كان و مازال له فى قلبى كثير الكثير.
(14) 
الأستاذ الدكتور أحمد نجيب لم يورث لى علماً و لكنه ورث لى خبرات....
الدكتور أحمد نجيب كان متفوقاً جداً فى دراسته و هذا ما أهله للحصول على الدكتوراة و الأستاذية فى وقت قصير مقارنة بزملائه. ما أعرفه أن الدكتور أحمد لم يورث علماً على غرار الأستاذة الكبار أمثال الدكتور أحمد مستجير أو الدكتور نجيب الهلالى و قد أكون مخطىء فى ذلك. و لكن ما أنا متقين منه, أن الدكتور أحمد صنع من بعده شخصيات كثيرة و أثر فى حياة ناس كثيرة و هذا هو ميراثه الحقيقى. أقول لنفسى هذا سبب أخر للنجاح, فإذا كان لدى من الأسباب الكثير للنجاح فى تحدى الحياة و إثبات الذات, فهذا سبب أخر ليكون ما علمنى إياه الأستاذ فى ميزان حسناته إن شاء الله.
(15) 
ليلة 7 ربيع الثانى 1437 هجرية الموافق 16 فبراير 2016 ميلاديه   
كنت أشاهد مع شقيقى الأصغر عرض مسرحى بدعوات خاصة أهدتنى أياها الشركة التى أعمل بها. و أثناء توقف العرض للإستراحة. جائنى ما يشبه الهاتف يقول لى أن الدكتور أحمد قد توفى أو أننى يجب أن أسأل عنه الرسالة كانت مشوشة قليلاً, لكنها كانت تخص الدكتور أحمد و قد انتفضت حينما خطر ببالى أنه قد يكون توفى أو إنه قد أقترب أجله.... صدق أو لا تصدق لكن هذا ما حدث و الله على ما أقول شهيد!!
(16) 
7 ربيع الثانى 1437 هجرية الموافق 16 فبراير 2016 ميلاديه... مسجد الرحمن الرحيم
أول شخص التقيته أمام المسجد فى رسالة قدرية غريبة فكرت فيها كثيراً كان هو أ. أستاذ صابر. برجاء الرجوع للفقرة الثالثة و الرابعة حتى تفهم ما أقول. كان المسجد ممتلىء عن أخره, و كان الجميع هناك و أنا اقصد بذلك طلاب و خريجين و أساتذة و موظفين و عمال و حتى أفراد أمن الكلية. بعد صلاة الجنازة توجهنا إلى المقابر و قبل إنطلاق أتوبيس الكلية ركبت معنا سيدة كبيرة فى السن يبدو أنها موظفة فى الكلية و على الرغم من إنه لم يوجد لها مكان فى الأتوبيس إلا أنها أصرت أن تذهب معنا و لو وقوفاً لحضور دفن الأستاذ. هذا الموقف أثلج صدرى لأن هذا يعكس حب كل الناس للأستاذ. فى النهاية تبرع لها أحد الرجال بمقعده و أنطلقنا إلى مكان الدفن فى مشهد رائع اصطفت فيه السيارات و الأتوبيسات لتوديع الحبيب أستاذنا أحمد نجيب. كنت أقول لنفسى أه لو مد الله فى عمرك لترى هذا المنظر و تعرف مدى حب الناس لك يا أستاذنا. وحينما وصلنا إلى المقابر ميزت وجوهاً أعرفها أكثر من التى رأيتها فى المسجد,حتى الأن لا أعرف من أين أتوا!!
(17) 
جلس على الرصيف مرتدياً حلته الأنيقة يبكى كالأطفال على فراق رفيق الدرب فى مشهد أثر فى كثيراً. أنا هنا أتحدث عن الرائع الأستاذ الدكتور مجدى شفيق..... الوفاء عندى له ثمن كبير أستاذنا الغالى.
(18) 
طوال الطريق إلى المقابر كنت أدعو الله, أن يهىء لى من الأسباب أن أشارك فى دفن الدكتور أحمد, وهنا حدث مشهد عجيب عند المقابر. حينما تناولنا جثمانه الطاهر لمواراته التراب خلعت حذائى لأنزل معه فى القبر و كان الزحام شديد. هنا وجدت عبد الهادى و شاب لم أعرفه من قبل و جميع الحضور يستمعون لما يقوله هذا الشاب. فحينما تناولنا الجسد قال لى أنتظر هنا لو سمحت فقلت له أن الدكتور أحمد أستاذى و هو الذى قام بتربيتى و أمام إصرارى على النزول معه للقبره, أذعن و تركنى أنزل معه للقبر. كنت أقول لنفسى, أنا أولى منك أن أواريه التراب و هو بمثابة أبى الذى علمنى الكثير و أحتوانى كثيراً. بعد أن وضعنا الأستاذ فى القبر ظل وجه هذا الشبه يرتعد من شدة الأنفعال و الحزن على فراق الأستاذ.... بعد ذلك عرفت أنه محمد ابن الدكتور أحمد نجيب. صدقنى يا عزيزى هذا الرجل الراقد فى التراب الأن فى مقام والدى الذى جاء بى إلى الدنيا.
(19) 
أنا لا أجد غضاضة فى أن أبكى حينما أتألم يستوى ذلك عندى أكان أمام الناس أو بينى و بين نفسى. أنا أجد أن ذلك لا عيب فيه على الأطلاق لأن الضعف طبيعة إنسانية و من الجيد أن يخرج الإنسان مشاعر الألم التى بداخله فى صورة بكاء أفضل من أن يكتمها فى صدره, على عكس السائد فى مجتمعاتنا. فى حياتى كلها و فى أشد أوقات الألم و المحنة, لم أبكى على شىء كبائى أمام قبر الدكتور أحمد نجيب. أحمد نجيب كان بالنسبة لى كالبوصلة التى كانت توجهنى فى الحياة. قد يكون الفترة التى كنت فيها قريب منه للغاية لا تزيد على 3 سنوات و لكنها كانت فترة كافية لظبط إحداثيات شخصيتى. أحمد نجيب لم يكن رجل جمعتنى به فترة فى حياتى و إنتهت, بل كان دليل لى للتعرف على مواطن القوة التى بداخلى و أخراج أفضلها. فى حياة المرء طالت أو قصرت يكون من النادر أن تلتقى بمثل هذا الشخصيات الرائعة الملهمة, التى تجعلك تتعرف على نفسك بصورة جيدة.
(20) 
أكتب هذه الكلمات ليس لرثاء أستاذنا العزيز, و لكن لتكون صدقة جارية على روحه الطاهره و تجربة ملهمة للجميع. أقول لكم أنظروا كيف أن شخص واحد بإمكانه أن يغير فى حياة الأخرين للأحسن فلا تبخلوا على أنفسكم بمن يذكركم بكل طيب و بالخير بعد وفاتكم.
(21) 
إلى أستاذنا و صديقنا و ملهمنا و أبانا الأستاذ الدكتور أحمد نجيب السيد شرف الراقد الأن تحت التراب, لا أقول أبداً وداعاً لأنك فى قلوبنا حى, لعقولنا و أرواحنا ملهم. و لكن أقول لك و كلى يقين و حسن ظن بالله أن أول لقاء لنا بعد ذلك سوف يكون عند حوض النبى محمد صلى الله عليه و سلم, ثم نسكن بعدها إلى جواره فى فردوس ربنا الأعلى. وقتها سوف نتجاذب أطراف أحاديث كثيرة و نتذكر ذكريات رائعة كثيرة, و لربما أستطعت وقتها أن أعبر لك عما قد أكون عجزت أن أشرحه لك فى حياتك, سوف أخبرك كم أنا أحبك و أقدرك و أحترمك.... سلامٌ عليك فى الأولين... و سلامٌ عليك فى الأخرين... وسلامٌ عليك إلى يوم يبعثون.

الجمعة، 1 يناير 2016

موسم تساقط الأقنعة

(1)
هذه رسالة مفتوحة أكتبها لنفسى لأقرأها فى عالم أخر و فى زمان غير الزمان. أنا على يقين إننى فى يوم ما, لا أعرف متى هو تحديداً, و لكننى حتماً حينما أقرأ هذه الرسالة سوف أبتسم أيما أبتسامة و سوف يشرق وجهى أيما إشراق و سوف أشعر بالفخر لأننى لم أستسلم . أنا على يقين و ثقة بالله بأن اليوم الذى تمنيته و حلمت به دائماً سوف يأتى. قصر أو طال الوقت و فى سبيل ذلك سوف أبذل كل غالى و نفيس, و لن أمل أبداً حتى تطلع الشمس من مغربها أو تغرغر الروح.....

 
(2)
أكتب هذه الكلمات و عام 2015 يلفظ أنفاسه الأخيرة. حينما أنظر إلى الوراء, إلى سنين عمرى المنقضية و التى تخبرنى أننى أقترب بسرعة من الأربعين ربيعاً. أجد أن عام 2015 هو الأهم و الأعظم على الإطلاق فى سنين عمرى كلها. هذا العام جاء بعد إحباطات أستمرت على مدار 5 سنوات سابقة بدون توقف. و كانت ذروة الأحباط فى عام 2014 المحبط للغاية. كل شىء فى هذا العام أحبطنى حتى النخاع و ترك فى نفسى ندوب و ودايان عميقة من خيبات الأمل. فى تلك الفترة سقطت الكثير من الأقنعة, يستوى فى ذلك أقنعة كانت على وجهى أو وجوه كثيرة ممن حولى.


(3)
أعظم ما عرفته عن نفسى فى عام 2015, أننى بداخل من العزم و القوة ما لم أكن أتخيله من قبل. كل الأشياء كانت تبدو على عكس رغبتى. كنت أشعر أننى أدور فى فلك ليس بينى و بينه أى إنجذاب و لكن لا يمكننى الأنفلات منه فى علاقة أشبة بعلاقة الحديد بالمغناطيس. كان أمامى خيار من إثنين إما أن استسلم لهذا أو ان انتفض و أغرس أخر فسيلة فى يدى و كأن الساعة قد شارفت على القيام. فى هذا العام فعلت ما قد أستطاع أن يفعله الكثير غيرى و ليس الإعجاز فى ذلك و لكن قياساً على حالة الإحباط التى كانت تحيطنى صرت كمن إنتفض بعد أن إنهال عليه تراب داحس والغبراء و الفراعنة و كل الحضارات القديمة مجتمعة. سوف أظل أتذكر هذا العام و كأنه بداية التأريخ لعودة نفسى إلى نفسى بعد سنوات عجاف, نفسى التى أحب فيها القتال و عدم اليأس و العزيمة و الإصرار. فى هذا العام سقط عن وجهى قناع طننت أنه سوف يظل يلازمنى لفترة طويلة. ومع نهاية هذا العام أشعر بنهاية مرحلة تقطر ألماً و كمداً, و أرى نفسى على أعتاب مرحلة جديدة فى حياتى أكثر إشراقاً إن شاء الله.

(4)
لا تسأل عن الأسباب أو كيف سوف تمضى الأمور, فقط أفعل ما ينبغى عليك فعله و أترك التدبير لرب التدبير. فرب الأسباب سوف يهىْ لك و يدبر لك ما فيه خيرك... أطمئن. أذكر أنه فى الربع الأول من عام 2015 أن سخر الله لى أمرأة لم يخطر ببالى أو ببالها هى من الأساس أن نلتقى, عوضاً عن أن تساعدنى فى أمر شخصى. وقتها تعجبت بشدة من تدبير الله. هذه المرأة لم ألتقيها فى حياتى قط, و الأعجب أنها جائت من بلاد بعيدة, و لعل الله قد ساقها لى لتقضى لى حاجة ما ثم بعد ذلك إنقطعت علاقتنا!! ... أبعد كل ذلك تقلق؟

(5)
مما تعلمته فى الفترة الأخيرة, أن اركز على نفسى وأن أربيها و أقومها و أعدل أخطائها إذا أخطأت و أن أرممها إذا انكسرت أو تألمت ولا مانع من بعض التدليل لها حتى لا تمل. أنا بطبعى لا أحب أن القى أى فشل أو سوء أداء على حجة الظروف أو الناس أو غيرها من الأسباب. ثم مؤخراً أضفت علي ذلك, الا انشغل بالناس أو الوم انقطاعهم عنى. من يعرفوننى عن قرب يعلمون أننى استعمل الفيس بوك بشكل مكثف.ذات مرة حكى لى مرة أحد أصدقائى الأعزاء, انه وضعنى على قائمة الأصدقاء المقربين بحيث يخبره الفيس بوك بأى تحديثات أقوم بها. و لكنه أضطر بعد فترة قصيرة أن يحذفنى من هذه القائمة لأننى كنت أقوم بعمل كثير من التحديثات فى اليوم الواحد وصلت حتى 25 تحديث على حد قوله, بالطبع ضحكت حينما حكى لى هذه القصة. الأن و قد أنقطعت عن الفيس بوك لمدة دامت 3 أشهر تقريباً أو يزيد قليلاً لأسباب شخصية و اقتصر إستعمالى له على متابعة بوستات الأخرين فقط. و هذه فترة ليست بالقصيرة أبداُ على شخص غزير الأستعمال للفيس مثلى. ما تعجبته فى البداية أنه لم يلحظ أحد ذلك, فى البداية أحزننى هذا و لكن مع الوقت سقط قناع أخر عن نفسى و أدركت ان كل الناس لديها ما يشغلها. قلت لنفسى أتذكر فلاناً الذى مات قبل فترة ليست قصيرة و كم حزنت عليه كثيراً؟ حدثنى بربك ماذا حدث بعدها؟ أنا أسألك انت هل توقفت حياتك؟ أو تعطلت مشاريعك أو أحلامك؟ قد تكون حزنت لفترة, و لكن حياتك لم تتوقف. و هكذا كل الناس فلا تلوم على فلان أنه لم يسأل عنك أو لم يتفاعل مع امور حياتك الشخصية السعيد منها أو المؤلم. وقتها أتخذت قراراً ألا أنتظر من أحد أى شىء ليس كفراً بالناس, و لكن تأكيداً للتوكل على الله ثم للإعتماد على النفس.

(6)
فى 2014 خرج من حياتى أشخاص كثيرين و لا أظنهم سوف يعودون, هم أختاروا ذلك بتصرفاتهم و أفعالهم. أنا لا أدعى او أنسب لنفسى فضل أو معروف, و أعلم إننى بى من العيوب و الخطايا الكفيلة بأن أشغل بها نفسى دوناً أن أنقب عنها عند الأخرين, فضلاً عن أقيم أشخاص. و لكن تظل العلاقات الأنسانية بعمقها و غزارة مشاعرها السلبية منها و الإيجابية تحتاج إلى تقييم كل فترة من الزمن. فى هذا العام سقطت أقنعة كثيرة عن وجوه كانت تدعى محبتى. سقطت كما تتساقط أوراق الشجر فى الخريف. كانت خيبات الأمل كثيرة كزخات المطر. هذا العام بأحداثه و شخوصه, أحدث تغيراً جذرياً فى تفكيرى و طريقة فهمى للأمور. تعلمت أشياء كثيرة عن نفسى لم أكن أعرفها من قبل. أصبحت أكثر قدرة على مصارحة نفسى بأخطائها و خطاياها. عرفت من أين ينفذ الأخرون إلى و يستغلوا ذلك أسوء إستغلال لصالحهم. تعلمت الكثير و أكثر مما كنت أظن إننى أعرفه عن البشر.

(7)
من نعم الله الكثيرة على إننى دائماً ما أضع نفسى مكان الأخرين. اعرف جيدا ان كل موقف او فعل يصدر من أى إنسان, بالتأكيد له فيه أسبابه. و لأننى أحب أن يعاملنى الناس بالصبر و الحلم على بعض تصرفاتى التى قد تبدو مزعجة لهم, فإننى أضع نفسى مكانهم حينما يصدر منهم أفعال لا تروقنى. و بناء عليه أتحمل الكثير من أخطائهم و سقطاتهم, متفهماً إنها طبيعة بشرية, أصابتنى قبل أن تصيبهم. و إستكمالاً لجميل نعم الله علي, إننى أمنح لمن يخطىء فى حقى الفرصة تلو الفرصة.و لكن...
فى تلك اللحظة التى أتخذ فيها قرار أنهاء علاقة مع شخص. لا أظنه سوف يعود من جديد إلى حياتى. هذا ليس من قبيل الجبروت, لا, و لكننى حينما يخرج شخص من حياتى, أكون قد تأكدت تماماً أنه قد أستنفذ رصيده لدى و إننى قد صبرت عليه كثيراً, و أنه لم يعد أمامنا مجال إلا أن يمضى كلاً منا فى طريقه.

(8)
اللهم أرحم و اغفر لأخى و صديقى الشهيد محمود رابع (نحسبه كذلك و لا نزكى على الله أحد), كنت وفياً لى فى حياتك و مماتك. لا يمكن بأى حال من الأحوال أن أنسى الرؤية الوحيدة التى رأيتك فيها, و التى كانت واضحة كفلق الصبح. فى تلك الرؤية رأيت إشارة ربانية لم أفهمها وقتها, أو ربما قد أكون تغافلت عنها (اللهم اغفر لى ذلك). وقت هذه الرؤية, كنت مقدماً على خطوة هامة و مفصلية فى حياتى, كانت الأشارة أن هذه الخطوة غير صحيحة. وقتها كنت قد وضعت ثقة مطلقة فى أشخاص و كنت مغمض العينين تماماً و هذا ما لم أعهده عن نفسى. كل الأمور فى حياتى تخضع لتدقيق و تخطيط قد يصل إلى حد الملل يستوى فى ذلك الأمور الكبيرة المصيرية و الأمور البسيطة كالتخطيط لخروجة مع الأصدقاء على سبيل المثال. فى هذه اللحظة تعطل جهاز التخطيط فى عقلى, أخذت مع هؤلاء الأشخاص خطوات و قرارات مصيرية فى فترة قصيرة,  و وضعت ثقة فيهم لم أضعها فى أحد من قبل قط. بحت بأسرار و خفايا عن حياتى لهم ظناً منى أنهم قد صاروا جزء منى و أنهم أولى الناس بمشاركتى طموحى و أحلامى. و بكل بساطة أستباحوا حياتى و أحلامى, بل و سخروا منها. حقيقة أنا لا أعرف لماذا فعلت ذلك بنفسى, و أنا أسرارى عندى عزيزة جداً, ربما كنت تعبت من حملها و أردت أن يحملها معى البعض, و لكنهم احبطونى حتى النخاع.... شكراً لكم فلقد علمتمونى أهم دروس حياتى.

(9)
يقولون أن الناس نوعان نوع كثمرة المانجو و أخر كثمرة جوزة الهند. الناس التى توصف بأنها كثمرة المانجو, هى أناس تتميز بحلاوة الطباع من الخارج و سهولة النفاذ إلى قلوبهم و مشاعرهم, و لكن يظل بكل حال من الأحوال من الصعب النفاذ إلى أعماق هذه الشخصيات الصعبة من الداخل كبذرة المانجو. أما الأشخاص التى تشبه ثمرة جوز الهند فهى صعبة التقرب و النفاذ إليها و لكن إذا استطعت النفاذ إليها سوف تستمع بحلاوة شخصياتهم من الداخل. أتصور إننى فى الفترة القادمة سوف أكون مثل ثمرة جوز الهند. لن أسمح لأناس جديدة أن تقتحم على حياتى إلا بعد فحص و تمحيص و تدقيق شديدين. فكل من نفذوا إلى قلبى بسهولة كالوا لى الأذى ألواناً و أشكالاً.

(10)
لا تسمح للأشياء السلبية التى تستنفذ طاقتك النفسية و الذهنية أن تستمر فى حياتك كثيراً, يستوى فى ذلك الأشخاص و الأماكن.... إنتهى

(11)
من أهم ما تعلمته فى السنوات السابقة, هى أن تهتم بما يراه الله منك و لا تتفاعل أبداً مع يعرفه الناس عنك. فربما يراك الناس ملاكاً من السماء, و لكن الله يرى فيك من السوء الكثير, فقل لى ماذا أفادك ذلك؟

(12)
من أجل ما أحلم به سوف أحرك الجبال, أو أموت و أنا أحاول.....

(13)
و ماذا بعد؟...
أرايت ما أنت فاعله و ما كنت تفعله, أرايت ما حلمت به و ما زالت تؤمن به.. عض عليه بالنواجذ و لا تمت إلا عليه. إن رأيت كل الناس يسيرون فى وادٍ و لم يبقى إلا أنت وحدك فى هذا الواد فلا تفتر أو تضعف. إجعل من كل إنكسار بداية و من كل نقطة ضعف إنطلاقة. لا تنشغل بغير ما أنت فاعله, و لا تطمح فى غير ذلك. ليس هناك حجة أو عذر فأبو أيوب الأنصارى رضى الله عنه لم يترك لمثلك حجة أو عذر...

(14)
و غداً.... سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً
يوقد النار شاملةً
يطلب الثأر
يستولد الحق من أضلع المستحيل


(15)
و فى النهاية....كتب الله سبحانه و تعالى على نفسه العفو و المغفرة عن ذنوب عباده, و هذا ما يليق بمقام حضرته و جلاله, فهو المتفرد بالألوهية والجبروت و مظاهر القوة كلها. و لذلك و لأنه أقوى من كل خلقه و يعلم كم أن الإنسان ضعيف, كتب على نفسه أن يغفر لعباده. و لذلك كان من جميل الصفات فى عباده المؤمنين العفو عند المقدرة (اللهم إجعلنى منهم). و لذلك من كل قلبى أقول....
اللهم أغفر لكل من ظلمنى...
اللهم أغفر لكل من خاض فى عرضى و فى سيرتى...
اللهم أغفر لكل من سمع عنى و لم يسمع منى ثم أطلق لأحكامه العنان...
اللهم أغفر لكل من أطلق على أحكام بدون سابق معرفة جيدة بشخصى أو بطباعى....
اللهم أغفر لكل من محا كل جميل أو معروف صنعته له, فنساه فى موقف منى هو فى وجهة نظره خطأ, و لم يمنحنى الفرصة أو الوقت لأشرح و أوضح له دوافعى و مبرراتى...
اللهم أغفر لكل من خيب ظنى و غدر بى...

الخميس، 24 يناير 2013

طيبة الطيبة

المدينة المنورة... 21-25 رمضان 1433 الموافق 8-12 أغسطس 2012

طوال الطريق بين مكة و المدينة كان هناك سؤال واحد يلح على رأسى إلحاحاً, كيف يا رسول الله؟ أى إيمان ملىء قلبك أنت و صاحبك لتسيرا كل هذه المسافة تلحفكم الشمس الحارقة فارين بأعظم رسالة للبشرية من مكة إلى المدينة. كنت مسترخى على مقعدى الوثير تحت فتحة التكييف مباشرة فى الحافلة التى أقلتنا من مكة بعد صلاة الظهر فى طريقنا إلى المدينة المنورة. كنت كلما نظرت من النافذة إلى الفيافى الممتدة إلى ما لا نهاية على ما يبدو شعرت بإجهاد من منظر الشمس الحارقة و هى تمطر رمال الصحراء القاحلة بأشعتها.

كانت القصواء (اسم ناقة النبى صلى الله عليه وسلم) تسير فى الصحراء حاملة فوق ظهرها أعظم من عرفت البشرية, و الخوف يرفرف حول قلب أبو بكر, و لما لا فقريش تتعقبهم و قد رصدت مكافأة كبيرة لمن يأتى بالصاحبين أحياء أو أموات. و الحبيب فى قلبه تتلألأ جملة واحدة , ما ظنك يا أبا بكر بإثنين الله ثالثهما. و فى السماء يدبر الله أمر أخر, فعين الله لا تغفل عنهم و لا تنام و ترعاهما فى رحليتيهما. أدركت كم أن هذا الدين عزيز و يستحق كل تضحية لتصل رسالة الله عزوجل للناس كافة.

حينما تطأ قدماك المدينة لأول مرة سوف تشعر بطمأنينة و سكينة تملأ قلبك لا تعرف سببها, و لما لا فساكنها هو الرحمة المهداة الذى أرسله الله رحمة للعالمين. كان التعب قد بلغ بنا مبلغه حينما وصلنا لمدينة رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد أن قطعنا المسافة بين مكة و المدينة و قد تخللها إستراحة قليلة للإفطار و لصلاة المغرب. كان شغلى الشاغل فى تلك اللحظة هو اللحاق بصلاتى العشاء والتراويح. كنت دائماً ما أسأل نفسى هذا السؤال, كيف سيكون اللقاء الأول يا رسول الله. والله لقد قتلنا الشوق لهذه الزيارة العزيزة, و قد من الله بها علينا بعد طول إنتظار.

بعد أن تم تسكيننا فى فندق الإقامة و بعد دش ساخن توجهت إلى مسجد رسول الله صلى عليه و سلم و قد جهزت بعض الدعوات لأدعو بها الله عزوجل فى مسجد رسول الله. الله أكبر, لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق, فمسجد رسول الله أكبر مما تخيلت و قد أمتلىء عن أخره بالمصلين و المعتكفين. زيارة مسجد رسول الله ليست من مناسك العمرة, و لكن هل يعقل أن يفصلنا عن مدينة الحبيب صلى الله عليه و سلم القليل من الكيلومترات و لا نزوره؟

ذهبت للمسجد  برفقة والدى و قد بدأت الصلاة, و بدأنا التحرك إلى داخل المسجد . هالنى هذا العدد الكبير من البوابات, و لم اعلم صراحة من أى باب يجب أن ندخل. قلت لنفسى, حسناً فلنتحرك و نترك الأختيار لله عزوجل, و بالفعل تحركت و وجدنا أقدامنا تحملنا للدخول من باب عمر بن الخطاب رضى الله عنه, و كان كذلك هو الباب الذى فضل أبى ان ندخل منه.

حينما دخلنا إلى المسجد و بعد أن زال الإنبهار قررنا الذهاب لزيارة صاحب القدر و المقام, أقصد قبر النبى صلى الله عليه و سلم و قبور صاحبيه أبو بكر وعمر. كنا نتصور فى البداية أن الأمر هين, و لكن هيهات, فالحب فى القلوب للنبى صلى الله عليه و سلم قد فاق كل وصف. فى البداية صدمنا أن الزيارة بأوقات محددة, و قد أخبرنى أحد المصلين و الذى يبدو من لهجته أنه مصرى, أن أفضل وقت للزيارة هو بعد صلاة الفجر مباشرة. كان جلياً من الزحام الشديد أن الزيارة فى هذا الوقت سوف تكون صعبة جداً, فقررنا القدوم فى وقت لاحق.

صليت الفجر فى باحة خلف الروضة الشريفة, و بعد الإنتهاء من صلاة الفجر جلست فى هذه الساحة انظر إلى سقفها لأجد أسماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و ال بيته مكتوبه فى منظر بديع انشرح له صدرى. شعرت أن الزمان قد توقف, لا بل عاد للوراء, و أن المكان لم يعد المكان الذى أعرفه. شعرت اننى حينما اقرأ كل أسم من اسماء هذه الكواكب الدرية, و كأننى استحضر مواقفه مع النبى صلى الله عليه و سلم. فهذا بلال الحبشى مؤذن الرسول و الذى أختصه دون عن غيره من الصحابة بالأذان لنداوة صوته, قاعدة هامة يجب ان نعيها... "مر بها بلال فإنه أندى منك صوتاً" لم يهتم النبى صلى الله عليه و سلم بلون بلال رضى الله عنه و لا بأصله الحبشى, كان الفيصل هنا نداوة صوته. شعرت به يؤذن و قد أرتج المكان كله و هو يصدح فوق مئذنة مسجد الحبيب محمد صلى الله عليه و سلم. و هذا مصعب بن عمير, الذى ترك ترف و نعيم الدنيا ليرفل فى نعيم صحبة محمد و صحبه. و هذا جعفر الطيار ابن عم النبى و الذى عز عليه أن تسقط راية رسول الله أرضاً و كانت ذراعيه فداءً لها فأبدله الله جناحيان يطير بهما فى الجنة أينما شاء. و هذا أبو عبيدة الجراح, أجمل أهتم فى المدينة و الذى اختار طواعية أن تكون أسنانه فداء لرسول الله صلى الله عليه و سلم. فهو الذى خلع الخوذة من رأس رسول الله بعد أنغراسها فى صدغه الشريف فى يوم أحد. و هذان الأخوان الحسن و الحسين قرتا عين رسول الله. و هذا أباهما على بن أبى طالب أشجع الشجعان و ابن عم النبى و زوج أبنته و قرة عينه فاطمة الزهراء. و هذا الكريم الذى لا يمل الإنفاق فى سبيل, ذى النورين عثمان بن عفان. و هذا الذى لا يخشى فى الله لومة لائم عمر بن الخطاب. و هذا الرفيق فى الرحلة, و الصاحب فى الدنيا و الرفيق فى القبر, أبو بكر الصديق. اللهم ارضى عنهم جميعاً و ارزقنا التأسى بخلقهم. بعد أن استفقت من انبهارى, وجدت ان القائمين على المسجد يقومون بإخراج المصلين من هذا الباحة حتى يتسنى للنساء زيارة الروضة الشريفة.

خرجت من الباحة و توجهت إلى باب أبى بكر رضى الله عنه لأدخل إلى قبر النبى صلى الله عليه و سلم. انتظرت ما يقرب من ثلث الساعة حتى يحين دورى. و حين فتح الباب أندفع الناس إندفاعاً, وقفت أمام قبر النبى صلى الله عليه و سلم و لم أعرف انه القبر, و قفت لدقائق قليلة أمامه ثم انصرفت. شىء ما أخبرنى اننى يجب ان اعود, درت حول المسجد ثم عدت لنفس الباب. هذه المرة دخلت إلى مكان قريب من قبر النبى صلى الله عليه و سلم و قد حشرت فيه حشراً مع زمرة من الزوار لمدة اقتربت من الساعة إلا الربع. يالله لقد رفع الله قدرك و ذكرك يا رسول الله, طبت حياً و ميتاً يا أبا القاسم يا أبا الزهراء يا جد الحسن و الحسين يا سيد الثقلين ,الأنس و الجن. الناس يتقاتلون لينالوا شرف الصلاة فى روضتك الشريفة, ثم يتبعوها بزيارة قبرك الشريف. حينما اقتربت من الروضة و قد قسم الحراس الزوار لمجموعات صغيرة حتى يستطيع الناس الزيارة و حتى لا يدهسوا بعضهم البعض. حينما اقتربت من الدخول إلى الروضة, وقف شاب من أئمة الحرم المدنى و الله أنى أحبه فيك يارب لدماثة خلقه و لحسن دعوته فلا تحرمنا مرافقته و مرافقة النبى صلى الله عليه و سلم فى الفردوس الأعلى من الجنة. ظل هذا الشاب يعظ فينا عن أداب زيارة القبور, و أن النافع هو الله و اننا لانأخذ بركتنا من القبور حتى و لو كان القبر هو قبر النبى صلى الله عليه و سلم, و أننا نعبد الله وحده من دون كل الوجود, و أننا حين نقترب من الروضة فيجب ان تعلونا السكينة و الا ندفع بعضنا بعض و الا نطيل فى الصلاة حتى نعطى الفرصة لأخواننا للصلاة فى الروضة. بعد قليل انفتحت اخر بوابة و للأسف نسى الناس كل ما قاله هذا الشاب الجميل و اندفعوا اندفاعاً شديد للصلاة فى الروضة
فى مساحة لا تتعدى الأمتار القليلة, المئات من المصلين يتزاحمون للصلاة فى الروضة الشريفة
أحد أئمة الحرم النبوى الشريف. رجل أحبه فى الله

الأنفاس و قد أحتبست فى إنتظار الدور للصلاة فى الروضة الشريفة



حينما قدر الله عزوجل لى الصلاة فى الروضة الشريفة, و الروضة لمن لا يعرف و كما جاء فى حديث النبى صلى الله عليه و سلم, هى المسافة ما بين منبره و قبره الشريف, و هى روضة من رياض الجنة كما قال صلى الله عليه و سلم. مرة أخرى تلاشى المكان, و صرت لست بالشخص الذى اعرفه منذ ثلاثين عاماً و يزيد. شعرت بهزة عنيفة من داخلى, و قشعرية سرت فى جسدى كله و رغبة عارمة فى البكاء. إنسابت الدموع منى و قد أجهشت فى بكاء لم أعرف متى سينتهى. لم يوقظنى من تلك الحالة إلا كلمات ذلك الشاب الأمام  التى قفزت فى عقلى فجأة, "لا تطيلوا فى الصلاة حتى تعطوا الفرصة لإخوانكم". أنهيت الصلاة و تحركت قليلاً لأسلم على النبى صلى الله عليه و سلم و صاحبيه أبو بكر و عمر. حينما وقفت أمام قبر النبى صلى الله عليه و سلم, كنت اتوارى خجلاً فنحن لم نفعل شيئاً بعد لنصرة الإسلام. هذا الدين الذى جائنا سهلاً غضاً ليناً, بينما تكبد صاحب هذا المقام الشريف و أصحابه الكثير ليوصلوه لنا و للأسف لم نحافظ عليه كما ينبغى. سلمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم و على صاحبيه ثم انصرفت.

طبت حياً و ميتاً يا رسول- قبر النبى صلى الله عليه و سلم و إلى جواره قبور صحابيه أبو بكر و عمر
.من الله عزوجل بعد ذلك على مرتين بالصلاة فى الروضة الشريفة, و قد تعجبت من سهولة و يسر الزيارة الثانية و قد كانت بعد صلاة التراويح. فالله عزوجل يصطفى من يشاء و يختار. فلم أكن فى الحاجة للإنتظار كثيراُ او للتدافع مع أخوانى من الزائرين. بل أننى استطعت ان اصلى مرتين فى مكانين مختلفين فى الروضة الشريفة و بمنتهى السهولة و اليسر!!

فى الليلة قبل الأخيرة لى فى المدينة صليت التراويح فى نفس الباحة خلف قبر النبى صلى الله عليه و سلم. فى هذا المكان سمعت القران كما لم أسمعه من قبل, كانت الحروف و الأيات تتخلل كل خلية فى جسدى فتهزها هزاً. فهمت القران و وعيته كما لم أفهمه من قبل. شعرت بعظمة الله عزوجل كما لم يخطر على بالى من قبل. هى فتوحات يمن الله بها على من يشاء و أينما شاء و كيفما شاء. فى هذه اللحظات الجليلة و الحبيبة إلى قلبى, شعرت بروحى تنسلخ من جسدى و كأنها تسجد أمام عرش الرحمن. يالله, كم تمنيت فى هذه اللحظة أن تتوفنى إليك لألقاك و انا مستشعر بغظمتك. لم يخرجنى من بهاء اللحظة إلا هذا الطفل الذى كان بجوارى فى الصف, و قد ظل يرمقنى و انا ابكى.

انتهت الزيارة للمدينة و معها انتهت اجمل أيام العمر. و كأن العمر كله قد أنتهى لنعود إلى الدنيا من جديد تصرعنا ذنوبنا كل يوم! بقى لنا زيارة بعض المعالم فى المدينة و كان أحبها إلى قلبى زيارة جبل أحد, "فأحد جبل يحبنا و نحبه" كما قال النبى صلى الله عليه و سلم. جبل أحد يقع على مشارف المدينة المنورة و يمكنك أن تراه من مسجد النبى صلى الله عليه و سلم. حينما تقترب من جبل أحد تشعر و كأنه قطعة من الجنة, هذا المكان عليه بهاء غير عادى و أمامه من الجهة الأخرى جبل الرماة الشهير و الذى حينما تركه الرماة لجمع الغنائم إنهزم المسلمون, كم من غنائم فى الدنيا جعلتنا نترك أماكننا لنخسر معاركنا مرة تلو أخرى؟ بجوار جبل أحد, توجد مقابر شهداء أحد و سيد الشهداء جميعاً حمزة بن عبد المطلب. حينما تنظر إلى قبور شهداء أحد, تشعر و كأن الملائكة تحفك من كل جانب, فلما لا فهؤلاء الشهداء هم من حملوا هم الإسلام حينما كان غضاً طرياً.
أحد جبل يحبنا و نحبه

السلام عليكم دار قوم مؤمنون, انتم السابقون و نحن إن شاء الله بكم لاحقون... قبور شهداء أحد

جبل الرماة

إنطلقنا بعد ذلك لزيارة مسجد ذو القبلتين, و هو المسجد الذى تم فيه تغيير القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام. تلا ذلك زيارة مسجد قباء, و هو أول مسجد بنى فى الإسلام. بعد ذلك كان ينتظرنا رحلة شاقة من المدينة إلى جدة, ثم إنتظار لما يقرب من 5 ساعات لموعد طائرة العودة للقاهرة.

على الهامش:
"إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها" حديث لرسول الله صلى الله عليه و سلم قرأته على أحد اللفتات بشوارع المدينة. هذا الحديث يلخص الحالة الإيمانية التى مررت بها فى المدينة, هى لم تكن فى مثل بهاء أجواء مكة الإيمانية و لكن للمدينة جو روحانى و سكينة تملأ كل شىء فيها لم أشعر بها فى مكة.

يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم " رحم الله رجلاً سمحاً, إذا باع سمحاً, و إذا اشترى سمحاً, و إذا إقتضى سمحاً" أو كما قال صلى الله عليه و سلم. "حنيف" هو شاب بنجلاديشى يعمل بالمدينة, ينطبق عليه هذا الحديث الجميل. فما بين دماثة الخلق و الأمانة و خفة دم المصريين!! تنوعت محاسنه. لا أعلم ماذا حدث لأخلاقنا التى ضاعت فى مادية الحياة التى نحياها.

كل شىء فى المدينة أكثر من رائع, فما بين نظافة الشوارع و حسن تخطيطها, و ما بين سلوك أهلها و دماثة خلقهم. هل تريد أن تعرف سلوك أهل بلد؟ حسناً عليك بالتعامل مع شرطتها, أو مع أصحاب المنعة و النفوذ فيها. هى من أجمل المدن التى زرتها فى حياتى و أحبها إلى قلبى. الأعجب من ذلك أن السكينة و البهاء تعلو وجوه أهل المدينة و طرقاتهم, و سوف تلحظ الفارق بين مكة و المدينة من هذا المنطلق بسهولة و يسر.

كنت أشترى بعض التمر إستعداداً لمغادرة المدينة, و أثناء تجولى حملتنى قدماى لباب من أبواب مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم لم أكن قد زرته من قبل. وجدت كشك صغير أمام المسجد يبيع مواد دعوية, ما بين كتب و أشرطة و مطبوعات شتى. تأثرت بشدة حينما سمعت صوت الشيخ محمود خليل الحصرى المميز, يصدر من مذياع داخل الكشك. فقلت لنفسى يا سبحان الله, هذا الشيخ رفعه الله بالقران لدرجة أن الناس تسمع صوته من أمام مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم.

ما زلت عند عهدى الذى عاهدت الله عزوجل عليه, من أمام قبر النبى صلى الله عليه و سلم... اللهم ارزقنا شهادة فى سبيلك و موت فى بلد حبيبك صلى الله عليه وسلم