الثلاثاء، 8 مايو 2012

حياة معلبة

"لو سمحت يا أستاذ ما فيش مكان لحضرتك إستنانى و أنا هارجع لحضرتك كمان شوية"
هذه جملة من الجمل التى أعتاد أن يرددها أكثر من مرة يومياً و هى تبدو المناسبة الوحيدة التى يقول فيها رأيه و على الجميع أن يحترمه و يستمع إليه!!


إعتاد يومياً ان ينحشر فى تلك العلب الحديدية المسماة بالميكروباص و أن ينتظر مضطراً شأنه شأن غيره من جميع الركاب حتى يقوم السائق بالتحميل. لا أحد يملك الأعتراض على قرارات سائق الميكروباص فبين التوقف أكثر من مره لركوب ركاب فى العربة الممتلئة أصلاً بالركاب و صوت الكاسيت المزعج  و أسلوب و لغة السائق الفجة و سلبية الركاب لا أحد يملك الإعتراض!! فاللى مش عاجبه ينزل. طوال سنواته عمره الخمسين لم يملك الإعتراض على شىء فهو يريد أن يمشى جنب الحيط كما أعتاد أن يسمع من أبيه و لا مانع أن يمشى داخله إذا لزم الأمر!!


الطريق مزدحم كالعادة و الحر خانق و نسمات الهواء التى تتسلل عبر نافذة الميكروباص تتسلل فى حياء لتلامس وجهه فيحمد الله على ذلك. فى بطء أكثر من بطء السحلفاة يتحرك الميكروباص, و على العكس من ذلك تتلاحق الأفكار فى عقله المنهك بالهموم و الأحلام المؤجلة على الرغم من كثرتها و زحامها .... كل الأحلام فى حياته صارت مؤجلة و صارت معلبة كما الحياة التى يحياها بين بيته المتواضع الصغير الذى إعتاد أن ينحشر بداخله هو و زوجته و أبنائه الثلاثة ومحل عمله فى المستشفى الحكومى.


"الله يخرب بيت العيال بتوع التحرير اللى خربوا البلد" جملة إخترقت أذنه و دغدغت بعض المشاعر لديه, أراد أن يدافع عن شباب التحرير أو "الورد اللى فتح فى جناين مصر" هكذا إعتادت إبنته الكبرى أن تقول و هو لا يعلم انها قصيدة كتبها أحمد فؤاد نجم لرثاء شهداء ثورة 25 يناير. هى أول فرحته و خريجة الجامعة التى شاركت أبناء جيلها الإنتفاض ضد سلبية الأجيال التى سبقتها. همّ أن يشرح للرجل أن هؤلاء الشباب أعادوا لمصر روحها و شبابها, لكنه ما لبث أن عاد لتلك السلبية التى هى سمة جيله, فهو يريد أن يذهب إلى محل عمله لا أكثر و مش عايز وجع دماغ.


إعتاد أن يرى ألواناً و صنوفاً من البشر فى كل يوم تغدو و تروح قاصدة ذلك الصندوق الصغير الذى يصعد ويهبط محمل بأرتال من البشر. والتى إعتاد أن يتعامل مع ركابه بروتينية بحتة لا تختلف عن تلك الحياة التى يحياها. القلق يتلهمه إلتهاماً فموعد زفاف إبنته الكبرى على الأبواب و بالكاد إستطاع أن يدبر بعض النفقات. ما زال يحلم أن يبنى بيته على قطعة الأرض التى أشتراها بعد بيع ميراث والده فى الصعيد ليتزوج فيه أبنه الأوسط طالب الثانوية بعد تخرجه من الجامعة و لا مانع ان تتزوج فيه ابنتيه الأخرتين إذا لم يستطع أزواجهم المتوقعين  تدبير نفقات شراءالشقة. حتى هذا الحلم صار بعيد المنال فإرتفاع كلفة مواد البناء لن يمكنه من ذلك .


"تين تين".. ذلك الصوت الذى أصبح يتعامل معه حتى بروتينة هو الأخر, هو الذى أخرجه من دوامة الأفكار التى تلتهم رأسه. بروتينة إعتاد عليها نادى على ضيوفه المؤقتين "اللى عايز الدور الرابع يتفضل يا حضرات". خرج جميع الركاب ليتركوه وحيداً فى مصعد المستشفى الذى عاود رحلة الهبوط للدور الأرضى و معه عادت دوامة الأفكار إلى رأسه المكدود. فى تلك الغرفة الصغيرة الممتدة لأمتار قليلة و التى قضى بداخلها اكثر من نصف عمره بدت اللحظات ثقيلة و الحياة براحبتها بدت أمامه كعلبة صغيرة ... كل شىء فى حياته صار معلباً بلا طعم إلا من الهموم والأحلام المؤجلة!!




هذه أول قصة قصيرة أكتبها ... القصة جائتنى من وحى مصعد أستقليته لزيارة أحد الأقارب فى مستشفى حكومى.

الأحد، 6 مايو 2012

محنة المرض

كثيرة هى النعم التى وهبنا إياها المولى عزوجل و لكننا لا ندرك قيمتها. نحن نبكى أحبائنا حينما نفارقهم فقط, و لكن لا مانع لدينا أن نجعلهم يعانون بتصرفاتنا ما داموا هم أحياء!! فالإبن يعصى أباه و أمه ثم يبكيهم بكل حرقة إذا فارقوا الدنيا, فهو لا يعلم إذا كان يبكيهم لسوء أدبه معهم أو ندماً على تلك اللحظات التى لم يكن لهما إبناً باراً. الحبيب يبكى حبيبته بأشد الندم على ألم فراقها فى حين أنه لم يمهلها الوقت أو الفرصة للتعرف عليها أو ربما لم يصبر على بعض طباعها الغريبة عنه. إلا المولى عزوجل فهو يمهلنا الفرص المرة تلو الأخرى.


كنت قد إنقطعت الفترة السابقة عن التدوين لتعرضى لمحنة مرضية كبيرة لم أتعرض لها فى حياتى قط و الحمد لله على كل حال. المرض ذلك الزائر الذى لا يأتينا بدون سابق إنذار, الكل يراه زائراً ثقيلاً إلا المؤمنين!!


الصحابى الجليل أبا ذر الغفارى حينما سأله النبى صلى الله عليه و سلم عن أى الأشياء يحب من الدنيا فى معرض حديث جميل جمع النبى صلى الله عليه و سلم بالخلفاءالأربعة رضى الله عنهم فقال رضى الله عنه أحب ثلاث يا رسول الله "الجوع و المرض و الموت" فتعجب النبى صلى الله عليه و سلم و قال لا أحد يحب هذا يا أبا ذر, فقال يا رسول أنا إذا جعت رق قلبى و إذا مرضت خف ذنبى و إذا مت لقيت ربى. هذا حال المؤمنين و نظرتهم للأمور!!


من أعظم نعم المولى عزوجل علينا هى نعمة الصحة و أصبحت مقولة أن "الصحة تاج على روؤس الأصحاء لا يراه إلا المرضى" كلمة ليست ذو قيمة من كثرة تكرارها بدون الشعور بمعناها. حينما يدعو لك أحد بتمام الصحة و العافية قد تشكره و لكن قد لا تدرك قيمة ما دعى لك به. دعنى أوضح  لك الصورة, هل أصابتك نزلة برد من قبل أو حمى شديدة؟ بالتأكيد أنا و انت عزيزى القارىء نعرف الإجابة فمن منا لم تصبه نزلات البرد سواء فى الصيف أو فى الشتاء!! دعنى أكون اكثر تحديداً معك ماذا كان شعورك و أنت لا تستطيع التنفس بأريحية أو ربما واجهت صعوبات فى البلع و بالطبع كانت أنفك مزكمة أو ربما بها رشح. صدقنى كل ذلك لا شىء و على الرغم من أنه ينغص عليك حياتك لبضعة أيام و لكنه مقارنة بمعاناة الأخرين قد لا يبدو  شىء على الإطلاق!!


أنا لا أكتب لك هذا الكلام يا عزيزى لكى أسفه (بضم الألف و كسر الفاء) من الامك أو لكى انغص عليك متعة يومك أو حتى لإجعلك تتعاطف معى. أنا أكتب لك هذا الكلام حتى تعرف قيمة النعمة التى وهبك الله أياها و لكى تنظر للأمور بنظرة أكثر تفاؤلاً. فمن "بات ضامناً قوت يومه, أمناً فى سربه, معافاً فى بدانه فقد حيزت له الدنيا و ما فيها" أو كما قال النبى محمد صلى الله عليه و سلم. أى والله, لو حضرتك نمت ليلتك شبعاناً و أنت و أهلك أمنين و بصحة و عافيه فلا ينقصك شىء من دنياك. فلا داعى إذن أن تقلق بشأن الغد.


منذ شهر أو اكثر فجأة و بدون مقدمات إنتشرت بقع وردية اللون صغيرة الحجم فى صدرى ثم بدأت تنتشر فى كل جسمى. ذهبت للطبيب فوصف لى بعض الأدوية و لكن الأمر إزداد سوءً بعد يومين لا أكثر و حينما عدت إليه قال لى تقلق الأمر ليس بتلك الخطورة داوم على العلاج الذى كتبته لك. قررت أن أذهب إلى طبيب أخر لان كلام هذا الطبيب لم يكن مقنعاً لى و أخبرنى تقريباً نفس الكلام و أضاف عليه انه فيروس يصيب الجسم و يسبب تلك البقع المصحوبة برغبة شديدة فى الهرش بعد فترة أخرى قررت الذهاب إلى طبيب ثالث!!


العحيب فى الأمر أن الطبيب الثالث هى سيدة فى عيادة بالقرب من بيتى لم أكن أفكر بزيارتها من قبل. السبب فى ذلك أن الطبيبن الأوليين تابعين لشركة التأمين التى تعاقدت معها الشركة التى أعمل بها. المهم قررت أن أستكمل العلاج مع هذه الطبيبة مع إضطرارى لتحمل نفقات العلاج على حسابى الخاص. السبب فى ذلك هو شعورى بالراحة النفسية مع هذه الطبيبة التى شرحت لى حالتى الصحية و سببها و هذا ما لم يقم به الطبيبين الأخرين.


فى قناعتى الشخصية التى ربما أكون مخطئاً فيها أن اى مرض علاجه يبدء من الشق النفسى للمريض. المريض, أى مريض يكون فى حاجة إلى الطبيب الذى يستمع إليه و يشرح له أسباب مرضه و كيفية علاجه و لا يتركه هكذا بدعوى أنه لن يفهم ما يتكلم عنه الطبيب. و فى أوقات كثيرة لا يستجيب المرضى للعلاج الذى وصفه لهم الأطباء إما لعدم قناعتهم بجدوى العلاج أو لعدم قناعتهم بالطبيب المعالج نفسه.


للأسف مع تحول الطب لمهنة أصبح كثير من الأطباء يغفل عن حق المريض فى معرفة حالته الصحية و أن يوضح له ما أسبابها, و هذه من أخلاقيات المهنة التى أصبح لا يلتزم بها الكثيرون من الأطباء. فالطبيب فى الغالب لا وقت لديه ليتكلم مع المريض فهو يريد أن يقوم بالكشف على أكبر قدر من المرض لزيادة حصيلته اليومية. أنا بالطبع لا أتحدث عن كل الأطباء, لأنه ما زال هناك قلة قليلة ما  زالت تحترم نفسها قبل أخلاقيات المهنة.


كان تشخيص الطبيبة لحالتى أنها حساسية موسمية تأتى مع تغير الجو بين فصلى الشتاء و الربيع و فى تلك الفترة تسبب حبوب اللحاق المنتشرة فى الجو و التى فى الغالب لا ترى بالعين المجردة حساسية شديدة لبعض الناس و التى تتراوح أعراضها ما بين أمراض فى الجهاز التنفسى أو مشاكل فى العيون, أو مثل حالتى لمشاكل فى الجهاز المناعى مسببة بعض المتاعب الجلدية. فى حالتى تسبب تغيير الجو إلى رد فعل قوى من جهازى المناعى تجاه ذلك مما أدى إلى إنتشار تلك البقع فى جسمى.


حينما علمت أن حالتى هى حساسية مرتبطة بالتغيير المناخى تذكرت صديقة أمريكية من أصول فينزويلية كانت لدى إبنتها حساسية شديدة تجاه الفول السودانى و هى حساسية منتشرة كثيراً بين الأمريكيين. أتصور أنها مرتبطة بطبيعة المناخ هناك. صديقتى هذه كانت تعانى أشد المعاناة إذا رغبت طفلتها ذات الثلاث أعوام فى شراء أى نوع من الحلوى أو أرادت أن تطعمها أى طعام خارج المنزل. فعليها أن تتأكد أن محتويات تلك الحلوى لا تحتوى على فول سودانى أو أى من الزيوت المستخلصة منه. لا يمكن أن انسى الرعب الذى كنت اراه فى عينى الطفلة حينما كانت تتشبث  بشراء حلوى تحتوى على الفول السودانى و كانت أمها تقول لها سوف تحدث لك أزمة كالتى حدثت لك فى الماضى. يبدو أنها كانت أزمة كبيرة فالرعب الذى كان فى عينى الطفلة كان كافى لمعرفة ذلك!! حكت لى أمها انها فى احد نوبات الحساسية كادت أن تموت لولا أنهم اسرعوا فى إسعافها!! للأسف حساسية إبنة صديقتى من النوع المزمن الذى لا يغادر الجسم بسهولة.


فى الحقيقة كانت تلك الطبيبة نموذج يحتذى به فى الإلتزام بأخلاقيات المهنة. تلك الطبيبة هى إستشارى له سمعة كبيرة فى عالم الأمراض الجلدية, وعلى الرغم من تواضع عيادتها إلا انها مزدحمة فى كل الأوقات مما يعكس ثقة مرضاها فيها. الطبيبة لم تكتفى بتشخيص العلاج و متابعة الحالة, بل أنها عند نقطة معينة فى رحلة العلاج لم تجد أى غضاضة فى أن تدعونى  لعمل لجنة طبية من مجموعة من زملائها الأطباء للكشف على حالتى لربما يكون لديهم تشخيص أفضل من تشخيصها!!


فى اليوم المحدد لذلك ذهبت إلى مستشفى الحوض المرصود و هو المستشفى الحكومى التى تعمل بيها طبيبتى. هالنى ما رأيته هناك فى تلك المستشفى ذات السمعة الطيبة. فطوابير المرضى بإعداد لا توصف, و فهمت أن تلك الأعداد تنتظر العلاج المجانى, و تعجبت بشدة حينما رأيت طوابير العلاج المدفوع الأجر فهى لا تقل كثيرا عن الطوابير المجانى.المهم تم توقيع الكشف علىً بمعرفة نائب رئيس المستشفى و كان التشخيص مشابه لما قالته طبيبتى. بقى أن أقول هنا أن طبيبتى أسمها الدكتورة مادلين راغب أخصائى الأمراض الجلدية بمستشفى الحوض المرصود. و عملاً بالحديث الشريف أنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس.... شكراً دكتورة مادلين على أهتمامك الفائق بحالتى الصحية.


 لن أطيل عليكم, فلقد منّ الله علىّ بالشفاء و الحمد لله لأخرج من تلك المحنة بدرس أن الصحة و الأمان هما أعظم و أجل نعم الله علينا و أننا مهما قابلتنا مشاكل فى حياتنا, فإنها لن تكون شىء أمام لحظات نتألم فيها و يعجز الأطباء عن فهم حالتنا أو وصف الدواء المناسب!!


عزيزى القارىء.... فى المرة القادمة التى سوف تواجهك مشكلة فى حياتك مهما كبرت أو صغرت تذكر أن الله منحك نعمة الصحة التى لا يضاهيها شىء فى الدنيا و قل الحمدلله على كل الأحوال. فبينما أنت تقرأ تلك التدوينة هناك الكثيرون الذين يعانون محنة المرض وحبيسى أسرتهم و ربما حتى يعجزون عن قراء ما تقرأه أنت الأن.


متعنا الله و أياكم و أهلونا و أحبتنا بالصحة و العافية.... إلى اللقاء فى التدوينة القادمة إن شاء الله