السبت، 25 أغسطس 2012

و هذا البلد الأمين

مكة المكرمة... 13-20 رمضان 1433 الموافق 1-8 أغسطس 2012

- تلبس كفنك الأبيض المكون من قطعتين بلا مخيط لتتجرد من الدنيا و زخرفها, ثم تنوى العمرة من الميقات و تقول "لبيك اللهم عمرة لا سمعة فيها و لا رياء". النية هى رأس كل عمل فى الإسلام و لو لم تخلص النية لله عزوجل لحبط عملك. فأنت تنوى العمرة لا ليقال لك يا حاج, و لكن لتعظم شعائر الله "ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ" هى أحدى الأيات الكثيرة المعلقة بأستار الكعبة. تتسلم الحجر الأسود الذى كان أشد بياضاً من اللبن و سودته خطايا ابن ادم. تقبل الحجر الأسود فإن لم يكن تشير إليه ثم تقول "بسم الله.. الله أكبر" لتعرف ان الله عزوجل أكبر من كل شىء فنحن لا نعبد أحجار و لا نأخذ بركتنا من أحجار و إنما هى الرمزية, كأنما تترك ذنوبك عند هذا الحجر لتبدأ المناسك.

- بعد ذلك تبدء الطواف حول الكعبة و قلبك متوجهاً ناحيتها فى إتجاه عكس عقارب الساعة و كأنك تعود بالزمن إلى الوراء, مرة أخرى هى الرمزية, فنحن لا نعبد أحجار. و كأنك بطوافك هذا تسأل الله عز وجل ان يغفر لك ذنوبك التى مضت. أنت حينما تقرأ هذا الكلام تدور مرغماً, فالأرض التى تسكنها منذ جئت للدنيا تطوف حول نفسها كل يوم مره بلا كلل, و القمر يدور حول الأرض مرة كل 28 يوم, و الأرض تدور حول الشمس مرة كل عام مرة, و الشمس تدور حول مجرة دربة التبانة, و مجرة درب التبانة تدور حول المجرات الأخرى, و الذرات فى جسمك تدورحولها سبع إلكترونات. كل شىء فى الكون يطوف حول من هو أكبر منه, إلا الله عزوجل الواحد الأحد الصمد الوحيد الثابت و الجميع يطوف حوله مسبحاً بحمده و عظيم سلطانه. و كأنك بطوافك هذا تقر بأن كل شىء متحرك إلا الله الواحد الصمد الذى يعود إليه كل شىء.

- بعد أن تنتهى من الطواف تتجه خلف مقام إبراهيم أو إلى أى مكان فى الحرم و ترفع صوتك بالأية الكريمة "وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى. فنحن نعبد الله عزوجل على ملة أبينا إبراهيم فهو الذى سمانا مسلمين. و كأنك من هنا تعلن أننا أمة النبى محمد صلى الله عليه و سلم أولى الناس بإبراهيم, يقول تعالى "مَا كَانَ إِبۡرَٲهِيمُ يَہُودِيًّ۬ا وَلَا نَصۡرَانِيًّ۬ا وَلَـٰكِن كَانَ حَنِيفً۬ا مُّسۡلِمً۬ا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ* إِنَّ أَوۡلَى ٱلنَّاسِ بِإِبۡرَٲهِيمَ لَلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ وَهَـٰذَا ٱلنَّبِىُّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ‌ۗ وَٱللَّهُ وَلِىُّ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ"
- تطوف بين الصفا و المروة سبعة أشواط ذهاباً و أياباً بلا توقف. هكذا فعلت هاجر المصرية التى تركها زوجها النبى إبراهيم عليه السلام مع النبى الرضيع إسماعيل بواد غير ذى زرع عند بيت الله المحرم. كانت هاجر تبحث عن ماء أو شىء يسد رمق الرضيع الذى بالتأكيد ألهبته حرارة الشمس و الجوع فى هذا المكان المقفر. أنت تذهب و تجىء بين هذين الجبلين "الصفا و المروة" لتتدبر هذا المعنى العميق التى تركته لنا زوجة النبى إبراهيم. الإسلام دين عمل و عبادة, هذا ما تعلمته من السعى بين الصفا و المروة. أنت تسعى بين الجبلين كسعيك فى الدنيا على الرزق, إن كان لديك اليقين و التوكل على الله أن رزقك مكفول و حتى إن كان الطريق مقفر و مظلم و الحياة صعبة عليك, إن كان لديك يقين بالله عزوجل مثل الذى كان عند هاجر, فالنتيجة مضمونة لا ريب فى ذلك.

- يسبق السعى بين الصفا و المروة, أن تشرب من ماء زمزم و أن تصب منه على رأسك. أنت تشرب الماء قبل السعى لكى ترى نتيجة التوكل على الله. فحينما توكلت هاجر على الله و سعت تبحث عن أسباب الحياة رزقها الله عز وجل هى و أبنها بئر يشرب منه الناس إلى قيام الساعة.

- أنا أنا لا شىء.. أنا أنا لا شىء.. أنا أنا لا شىء. أنا فى المجموع لا شىء, و المجموع فى المجاميع لا شىء, و المجاميع فى سكان الأرض لا شىء, و سكان الأرض فى عدد البشر من لدن أدم و حتى قيام الساعة لا شىء, و الأرض فى مجموعتها الشمسية لا شىء, و المجموعة الشمسية فى مجرتها لا شىء, و مجرتنا فى السماء الدنيا لا شىء, و السماء الدنيا فى السماء الأولى لا شىء, و السماء الأولى فى السماء الثانية لا شىء, و السماء الثانية فى السماء الثالثة لا شىء, و السماء الثالثة فى السماء الرابعة لا شىء, و السماء الرابعة فى السماء الخامسة لا شىء, و السماء الخامسة فى السماء السادسة لا شىء, و السماء السادسة فى السماء السابعة لا شىء, و السماء السابعة فى كرسى عرش الرحمن لا شىء..... و الله أكبر من كل شىء و فوق كل شىء و لا يعلو عليه شىء. لا إله إلا الله , فليس وراء الله مرمى. أأدركت الأن الحقيقة؟؟ أعرفت قدرك و مقامك؟؟ أنت مهما على شأنك و كبر مقامك لا شىء. فى زحام الحرم الشديد أدركت أننى لا شىء و أن لا شىء يبقى إلا وجه الله الكريم. الكل مشغول بنفسه و لا أحد يلتفت لك يا مسكين, الكل مشغول بنفسه إلا الله عزوجل يدبر لك الخير كله. هو مشهد من مشاهد يوم القيامة يوم يفر المرء من أخيه و أمه و أبيه. فى زحام الحرم يدهس أحدهم قدمك و يمر و ربما لم يلتفت أنه فعل ذلك, و كذلك يوم القيامة سوف يدفع الناس بعضهم دفعاً إلا من رحم الله. اللهم اكتبنا ممن رحمتهم يوم العرض عليك.

على الهامش:
- فى أثناء طوافى ببيت الله العتيق و قرب نهاية الشوط السادس بين الركن اليمانى و الحجر الأسود. مر إلى جانب ذلك الكهل الهندى "على مايبدو من هيئته" و ظل يتمتم بكلام أقرب للنشيج منه للبكاء لم أفهم منه شىء إلا كلمة " يارب" هذا الكهل أبكانى أيما بكاء.

- كانت تضمه إلى صدرها و يبكى كلاهما فى حرقة و لوعة شديدة خلف مقام إبراهيم. يبدو أن المصاب شديد و أن الطلب عزيز و أن الأسباب قد تقطعت بهم و لم يبقى إلا الله. كان مشهد تلك المرأة الأندويسية و أبنها و هما ينتحبان مؤثراً للغاية. حتى و إن تكلما بلغة لم أفهمها أنا أو غيرى, فالله عز وجل يعلم السر و أخفى.

- هو خير أيام الدنيا كما قال النبى صلى الله عليه و سلم. الحر شديد على الرغم من أن الشمس لم تنتصف بعد فى كبد السماء, فعقارب الساعة تقترب من العاشرة بتوقيت مكة. طريق الخليل إبراهيم الذى يصل فنادق الإقامة بالحرم المكى ممتلىء كعادته بأرتال من البشر. ثلاث ساعات تقريباً قبل صلاة الجمعة و الجميع يجد فى السير ليجد له مكان فى الحرم الذى قد أمتلىء عن أخره بزوار بيت الله الحرام. على الرغم من كبر سنها, و على الرغم من أن النساء لم تفرض عليهن صلاة الجمعة. إلا أن الحاجة الجزائرية أصرت على الصلاة و التوجه إلى بيت الله العتيق مستندة إلى كرسيها المتحرك تدفعه أمامها كمسند لها. حينما نظرت إليها أشفقت على نفسى كثير, فكم من الصلوات أضعتها و أنا الشاب الممتلىء بالصحة. لأجل هذا كانت الجنة درجات, فلا يستوى الذين يعملون و الذين لا يعملون.

- بعد صلاة المغرب كنت أتحرك فى الحرم خلف مقام إبراهيم فى مكان إعتدت أن اصلى فيه صلاة العشاء و القيام. لفت إنتباهى جملة قالتها فتاة صغيرة "هكذا يبدو من الصوت" من خلفى  "هذا بيت الله و لا أحد يستطيع أن يمنعنا من زياته" كانت هذه الجملة هامة لأن يعيها الجميع. فلا فضل لأحد فى هذا البيت و الكل عند الله سواء, و يرفع العمل الصالح صاحبه.

- خرج من بيته متوجهاً إلى رحاب الله. لم ألتقه من قبل و لكن المره الوحيدة التى رأيته فيها كانت كافية لأن يظل هذا الوجه محفوراً فى ذاكرتى إلى ما شاء الله. أظن أن هذا الرجل سوف تظل محفورة ذكراه فى عقلى إلى الأبد. سقط الحاج على الدرج فدقت عنقه و لقى الله عزوجل, لم ترى عينى سوى جسده المدد فى لباس المعتمرين على درجات الدرج. و ظلت تلك المعتمرة التونسية تبكيه بلوعة و كأنها تعرفه, يبدو أنها شاهدته و هو يسقط  ليكون ربما أخر ما فعله فى الدنيا هو النظر إلى بيت الله الحرام. سوف تبعث أيها الحاج يوم القيامة إن شاء الله و أنت تجد فى السير قاصداً بيت الله الحرام, فالمرء يموت على ما بعث عليه.... هنيئاً لك الجائزة

- نحن مهزمون نفسياً و أنا أولكم. جميعنا أصبح لا يقول جملة واحدة إلا و قد حشر فيها بعض الكلمات الأعجمية و كلاً و ثقافته فالغالبية تستخدم الأنجليزية و البعض يستخدم الفرنسية أو الألمانية. من المشاهد التى أثرت فى كثيراً فى أثناء زيارتى لبيت الله الحرام و أرتنى نعمة كنت غافلاً عنها كثيراً و هى لغة القران و لغة أهل الجنة و لغة الحساب يوم الحشر و الزحام.... اللغة العربية. صار معتاداً لى حينما أقرا فى كتاب الله فى أثناء تواجدى بالحرم, أن أجد رأس معتمر هندى أو باكستانى أو من أى جنسية أخرى و قد أقتربت كثيراً منى تتسمع لما أقرئه, و حينما تنظر إلى العيون تجد حسرة شديدة و شوق إلى قراءة كتاب الله و تدبر معانيه و لكن المراد غالى و عزيز. لا يمكن أن انسى هذين الطفلين النيجيريين ذوا الوجوه النيرة و هما يتحركان كالملائكة فى بيت الله الحرام حاملين لكتاب الله عزوجل و يقرأن بلسان عربى مبين و قد تحلق حولهما الهنود و الباكستانيين و غيرهما يستمعان إلى القران بصوتيهما فى أيما عجب. و حينما سألت ذلك المعتمر النيجيرى الذى ظننته أباهما عن جنسيته قال لى أنه من نيجيريا و أن هذين الطفلين أبنان لصديقه. و حينما عرف أننى من مصر قال لى كلام هزنى بشدة. قال لى "أنتم علماؤنا, فعلى صوت الشيخ المنشاوى تعلم أطفالنا القرأن" و أشار إلى الطفلين!!

- "كان أكثر ما يؤرق المسيح عيسى بن مريم هو مشهد باحات المسجد الأقصى و قد امتلئت بروث البهائم و مخلفات الباعة و كان يود لو يصرخ فيهم و قد إنتهكوا حرمة المكان!!" .. من كتاب المسيح عيسى بن مريم للدكتور عبد الحميد جودة السحار. من أكثر الأشياء التى ألمتنى فى أثناء هذه الزيارة المباركة, هو مشهد الحرم بعد صلاة المغرب. فزوار البيت الحرام إعتادوا على تناول التمر و ماء زمزم و بعض العصائر بعد الأذان, ثم تقام الصلاة. و بعد الصلاة سوف تجد ما يدهشك و يحزنك, فأغلب المصليين و يالا العجب يلقون كاسات المياه الفارغة و المناديل الورقية و نوى التمر فى ساحات المسجد الحرام أطهر بقاع الأرض قاطبة. هل يعقل هذا؟ مسجد الله الحرام يحدث فيه ذلك؟! و نحمد الله تعالى أن سخر جيوش من عمال النظافة بالحرم يقومومون بتنظيف الحرم فى دقائق معدودات.


- إعتذار واجب للأشقاء فى الجزائر ,فمعظم المصريين بعد مباراة الكرة الشهيرة و أنا منهم تباروا فى سباب الأشقاء. و من عجب أن الأشقاء من الجزائر الذين ألتقيتهم فى الحرم أظهروا حب غير عادى لمصر. لا يمكننى بأى حال من الأحوال أن أنسى الكهل الجزائرى الذى انتفض من مكانه ليلقى على السلام حينما علم أننى من مصر. فى الحقيقة كل الأخوة من شتى بقاع العالم أظهروا لمصر حب و مودة غير عادية فمن تونس و ليبيا و باكستان و الجزائر و نيجيريا كانت التحيات الحارة لمصر و أهلها.

- ماهر المعيقلى أمام الحرم المكى... صوت من السماء

- من الأشياء التى أسترعت أنتباهى, أن أئمة الحرم يخطئون كثيراً فى تلاوة القران الكريم.أكاد أجزم أنها الرهبة التى تصيب كل من فى بيت الله الحرام.

- روىء أن إبراهيم بن المبارك قصد بيت الله الحرام ناوياَ الحج فى قافلة من الحجاج. توقفت القافلة لتنال قسط من الراحة, فوجد إبراهيم بن المبارك فتاة تفتش فى القمامة, فظل إبراهيم بن المبارك يراقبها و قد وجدها تحمل طير ميت قد أخذته من القمامة, فتبعها, فإذا بالفتاة و أمها و أخوتها يأكلون منه. فلما سألهم إبراهيم بن مبارك عن ما جعلهم يأكلون الميتة و قد حرمها الله علينا, قالوا أن لا عائل لهم و لا مال لديهم ليشتروا به الطعام. فرق إبراهيم بن المبارك لحالهم و اعطاهم دابته بما تحمل من زاد. و حينما همت القافة بالتحرك, أخبر إبراهيم بن مبارك رفاقه أنه لن يستطيع أن يكون فى قافلة الحج التى أعتاد أن يكون معها فى كل عام لزيارة بيت الله الحرام. و حينما عادت القافلة بعد موسم الحج, أقسم رفاق إبراهيم بن مبارك بإنهم رأوه معلق بأستار الكعبة, لعل الله قد أرسل ملك يحج عنه فى ذلك العام جزاء بما فعل مع تلك الفتاة الفقيرة و أسرتها!! رأيت الكثير ممن يشبهون معارفى و أصدقائى فى بيت الله الحرام, لعل الله يكتب لهم زيارة بيته الحرام فى القريب إن شاء الله.

- يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم " لا يشكر الله من لا يشكر الناس" أو كما قال صلى الله عليه و سلم. شكر واجب للمملكة العربية السعودية على الجهد الدؤوب التى تبذله فى خدمة زوار بيت الله الحرام.

- دائماً ما كنت أنتقد أخوانى المصريين الذين يذهبون للعمرة فى كل عام و هى ليست بفريضة, و هذا يكبد الأقتصاد المصرى المنهك الكثير. الأن و بعد أن شربت من هذه الكأس أدركت ان لهم كل الحق فى تكرار الزياة عام بعد عام. أقسم بالله العظيم أننى كنت أجلس أمام الكعبة المشرفة و أراها بأم عينى و لا يفصلنى عنها سوى أمتار قلية و يقتلنى الشوق إليها قتلاً. هى كأس المحبة التى إن شربت منها لا ترتوى أبداً حتى تلقى الله عزوجل و هو راض عنك.

*هذه بضع من كثير من الخواطر لأول زيارة لبيت الله الحرم

لبيك اللهم عمرة لا سمعة فيها و لا رياء.