نوبى أنا

طول عمرى مقتنع ان البشر كلهم سواء و إننا كلنا لأدم و أدم من تراب كما قال النبى صلى الله عليه و سلم و أنه لا فرق بين عربى و لا أعجمى إلا بالتقوى كما قال أيضاً النبى صلى الله عليه و سلم.


و لذلك أنا شخصياً أكره تصنيف البشر و أكره سماع كلام من عينة هذا من البلد الفلانى التى تشتهر بكذا أو بكذا من الصفات السيئة. الشىء الوحيد الذى أنتمى إليه هو دينى الذى يحضنى على تقبل و حسن معاملة الأخر.

و من عظيم قدرة الله عز وجل أن خلقنا شعوباً و قبائل مختلفين فى الطباع و الصفات و اللون و الثقافة و اللغة, وذلك لنتعارف لا لنتفاخر أو نتناحر.



كل بلد و لها طبيعتها المميزة و عاداتها و حتى داخل البلد الواحد تجد لكل منطقة ما يميزها عن غيرها و يجعل لها خصوصيتها.


أنا أفخر بإنتمائى للقرى النوبية التى تسكن فى جنوب مصر على الحدود مع السودان و تحديداً لقرية أبو سمبل. أقول أفخر بإنتمائى هذا و أقصد ان هذا شىء يشرفنى  و لا أتفاخر به على أحد.


الأب و الأم نوبيين و لكن للأسف الصلة بقريتى ضعيفة جداً لظروف عائلية و ظروف إجتماعية. سوف أحدثكم عن تلك الظروف الإجتماعية التى ظلمت أهل النوبة كلهم و ليس انا أو أسرتى فقط.

كما قلت لكم ان بلاد النوبة تقع على الحدود الجنوبية لمصر و بطبيعة الحال تقع داخل نطاق محافظة أسوان, و بذلك تكون هى أول قرى مصر إستقبالاً لنهر النيل.



كان للنوبيون حضارة قديمة و عظيمة تمتد لعصور مصر الفرعونية القديمةو يشهد على ذلك المعابدالفرعونية القديمة كمعبدى أبو سمبل و معبد فيلة. ليس ذلك فحسب و لكن التاريخ يقول أن النوبيين حكموا مصر فى فترة من الفترات حينما أنشأوا مملكتى كوش و نباتا التى حكمت مصر لفترات طويلة.

حينما شرعت الحكومة المصرية فى بناءالسد العالى فى ستينيات القرن العشرين تعرضت بلاد النوبة القديمة كلها للغرق و تسببت فى مأساة إنسانية غير مسبوقة نظرً لإرتفاع منسوب مياه نهر النيل فى بلاد و قرى ما وراء السد العالى.

ليس ذلك فحسب بل أن تراث أهل النوبة الأنسانى و الحضارى تعرض كله للضياع علاوة على ذلك غرق معبدى أبو سمبل و فيلة. الأمر الذى أستدعى تدخل اليونسكو لإنقاذ تاريخ هذا الجزء العزيز من الوطن. و لجأت الحكومة المصرية إلى تهجير قرى النوبة كلها إلى الشمال و تحديداُ فى مركزى كومبو و نصر النوبة فى فاجعة إنسانية أصابت أهل النوبة كلهم, الذين كانوا مضطرين لهجرة أرض أبائهم و أجدادهم!!

حكت لى جدتى رحمة الله عليها أن من عاصروا التهجير كانوا يبكون بدلاً من الدموع دم لأنهم أضطروا أن يتركوا نخيلهم و أرضهم الخصبة التى كانوا يزرعونها جيلأ بعد جيل و يرحلوا إلى الشمال. ليس ذلك فحسب, فقد 
حكى لى أحد أقاربى أنه قد سمع من جدته أن الحكومة المصرية فى ذلك الوقت كانت تقوم بإحضار قوارب غير أدمية و تضع فيها البهائم و أصحابها فى نفس القارب ثم أرسلتهم إلى كومبو و نصر النوبة و أسكنتهم فى خيام مؤقته لحين الإنتهاء من بناء بيوت لهم!!


فى حرب اكتوبر المجيدة لعب أبناء النوبة دوراُ محورياُ هام جداً فى الحرب. حيث كان يقوم أبناء النوبة بإرسال الأوامر للوحدات القتالية فى أثناء المعارك بإستخدام لغتهم الخاصة التى توارثوها من أجدادهم و التى لا يعرفها غيرهم و التى كانت من أهم مفاتيح النصر لأن العدو الصهيونى لم يستطع أن يتعرف على تلك اللغة.


و من عجب أن جزاء أبناء النوبة كان مثل جزاء سنمار بعد ما فعلوه للوطن. فلقد ظلوا أسرى للظلم الإجتماعى و التهميش بعد ذلك. فالسينما المصرية دأبت على أن تقدمهم فى صورة مهينة لا تليق بتاريخ و تراث هذا الجزء العزيز من البلاد. ليس ذلك فحسب 
و لكن دأب مبارك و عصابته على إغتصاب حقوقهم و سرقة أموالهم التى كانت ترسلها لهم منظمةاليونسكو كمعونات للحفاظ على تراثهم الأنسانى.


حينما ذهبت لزيارة قريتى فى عيد الأضحى الأخير وجدت أن الحزن هو السمة السائدة على أبناء قريتى و كل القرى المجاورة. الكل يشعر بالألم و الحزن على الحقوق الضائعة و التراث الذى أوشك أن يذهب بغير رجعة. أخبرنى أحد أقاربى ان زكريا عزمى رئيس ديوان رئيس الجمهورية السابق قد قام المجلس المحلى فى مدينة كومبو بإنشاء ترعة خاص له لكى تروى قطعة أرض إغتصبها تزرع كلها بالعنب الذى يُصدَر للخارج, مما تسبب فى قلة حصة الماء التى تذهب لباقى قرى النوبة. و لقد تسببت تلك الترعة فى إنهيار الجسر المقابل لقريتى توشكى و أبو سمبل مؤخراً مما تسبب فى غرق القريتين.


أنا اعرف ان الظلم فى مصر قد طال كل أبناء الوطن فى العقود الأخيرة بلا رحمة. و لكن كل ما يرجوه أبناء النوبة هو العودة إلى قراهم القديمة ليس أكثر من ذلك فى مساكن أدمية تبنيها لهم الدولةعوضاًعن تلك التى تركوها أثناء التهجير.


أثار النوبة تغرق

معبد فيلة يغرق

هناك تعليق واحد:

  1. كلام رائع ومعلومات حقيقيه. ان شاء الله الحق يرجع لصحابه عن قريب.

    ردحذف