الخميس، 24 يناير 2013

طيبة الطيبة

المدينة المنورة... 21-25 رمضان 1433 الموافق 8-12 أغسطس 2012

طوال الطريق بين مكة و المدينة كان هناك سؤال واحد يلح على رأسى إلحاحاً, كيف يا رسول الله؟ أى إيمان ملىء قلبك أنت و صاحبك لتسيرا كل هذه المسافة تلحفكم الشمس الحارقة فارين بأعظم رسالة للبشرية من مكة إلى المدينة. كنت مسترخى على مقعدى الوثير تحت فتحة التكييف مباشرة فى الحافلة التى أقلتنا من مكة بعد صلاة الظهر فى طريقنا إلى المدينة المنورة. كنت كلما نظرت من النافذة إلى الفيافى الممتدة إلى ما لا نهاية على ما يبدو شعرت بإجهاد من منظر الشمس الحارقة و هى تمطر رمال الصحراء القاحلة بأشعتها.

كانت القصواء (اسم ناقة النبى صلى الله عليه وسلم) تسير فى الصحراء حاملة فوق ظهرها أعظم من عرفت البشرية, و الخوف يرفرف حول قلب أبو بكر, و لما لا فقريش تتعقبهم و قد رصدت مكافأة كبيرة لمن يأتى بالصاحبين أحياء أو أموات. و الحبيب فى قلبه تتلألأ جملة واحدة , ما ظنك يا أبا بكر بإثنين الله ثالثهما. و فى السماء يدبر الله أمر أخر, فعين الله لا تغفل عنهم و لا تنام و ترعاهما فى رحليتيهما. أدركت كم أن هذا الدين عزيز و يستحق كل تضحية لتصل رسالة الله عزوجل للناس كافة.

حينما تطأ قدماك المدينة لأول مرة سوف تشعر بطمأنينة و سكينة تملأ قلبك لا تعرف سببها, و لما لا فساكنها هو الرحمة المهداة الذى أرسله الله رحمة للعالمين. كان التعب قد بلغ بنا مبلغه حينما وصلنا لمدينة رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد أن قطعنا المسافة بين مكة و المدينة و قد تخللها إستراحة قليلة للإفطار و لصلاة المغرب. كان شغلى الشاغل فى تلك اللحظة هو اللحاق بصلاتى العشاء والتراويح. كنت دائماً ما أسأل نفسى هذا السؤال, كيف سيكون اللقاء الأول يا رسول الله. والله لقد قتلنا الشوق لهذه الزيارة العزيزة, و قد من الله بها علينا بعد طول إنتظار.

بعد أن تم تسكيننا فى فندق الإقامة و بعد دش ساخن توجهت إلى مسجد رسول الله صلى عليه و سلم و قد جهزت بعض الدعوات لأدعو بها الله عزوجل فى مسجد رسول الله. الله أكبر, لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق, فمسجد رسول الله أكبر مما تخيلت و قد أمتلىء عن أخره بالمصلين و المعتكفين. زيارة مسجد رسول الله ليست من مناسك العمرة, و لكن هل يعقل أن يفصلنا عن مدينة الحبيب صلى الله عليه و سلم القليل من الكيلومترات و لا نزوره؟

ذهبت للمسجد  برفقة والدى و قد بدأت الصلاة, و بدأنا التحرك إلى داخل المسجد . هالنى هذا العدد الكبير من البوابات, و لم اعلم صراحة من أى باب يجب أن ندخل. قلت لنفسى, حسناً فلنتحرك و نترك الأختيار لله عزوجل, و بالفعل تحركت و وجدنا أقدامنا تحملنا للدخول من باب عمر بن الخطاب رضى الله عنه, و كان كذلك هو الباب الذى فضل أبى ان ندخل منه.

حينما دخلنا إلى المسجد و بعد أن زال الإنبهار قررنا الذهاب لزيارة صاحب القدر و المقام, أقصد قبر النبى صلى الله عليه و سلم و قبور صاحبيه أبو بكر وعمر. كنا نتصور فى البداية أن الأمر هين, و لكن هيهات, فالحب فى القلوب للنبى صلى الله عليه و سلم قد فاق كل وصف. فى البداية صدمنا أن الزيارة بأوقات محددة, و قد أخبرنى أحد المصلين و الذى يبدو من لهجته أنه مصرى, أن أفضل وقت للزيارة هو بعد صلاة الفجر مباشرة. كان جلياً من الزحام الشديد أن الزيارة فى هذا الوقت سوف تكون صعبة جداً, فقررنا القدوم فى وقت لاحق.

صليت الفجر فى باحة خلف الروضة الشريفة, و بعد الإنتهاء من صلاة الفجر جلست فى هذه الساحة انظر إلى سقفها لأجد أسماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و ال بيته مكتوبه فى منظر بديع انشرح له صدرى. شعرت أن الزمان قد توقف, لا بل عاد للوراء, و أن المكان لم يعد المكان الذى أعرفه. شعرت اننى حينما اقرأ كل أسم من اسماء هذه الكواكب الدرية, و كأننى استحضر مواقفه مع النبى صلى الله عليه و سلم. فهذا بلال الحبشى مؤذن الرسول و الذى أختصه دون عن غيره من الصحابة بالأذان لنداوة صوته, قاعدة هامة يجب ان نعيها... "مر بها بلال فإنه أندى منك صوتاً" لم يهتم النبى صلى الله عليه و سلم بلون بلال رضى الله عنه و لا بأصله الحبشى, كان الفيصل هنا نداوة صوته. شعرت به يؤذن و قد أرتج المكان كله و هو يصدح فوق مئذنة مسجد الحبيب محمد صلى الله عليه و سلم. و هذا مصعب بن عمير, الذى ترك ترف و نعيم الدنيا ليرفل فى نعيم صحبة محمد و صحبه. و هذا جعفر الطيار ابن عم النبى و الذى عز عليه أن تسقط راية رسول الله أرضاً و كانت ذراعيه فداءً لها فأبدله الله جناحيان يطير بهما فى الجنة أينما شاء. و هذا أبو عبيدة الجراح, أجمل أهتم فى المدينة و الذى اختار طواعية أن تكون أسنانه فداء لرسول الله صلى الله عليه و سلم. فهو الذى خلع الخوذة من رأس رسول الله بعد أنغراسها فى صدغه الشريف فى يوم أحد. و هذان الأخوان الحسن و الحسين قرتا عين رسول الله. و هذا أباهما على بن أبى طالب أشجع الشجعان و ابن عم النبى و زوج أبنته و قرة عينه فاطمة الزهراء. و هذا الكريم الذى لا يمل الإنفاق فى سبيل, ذى النورين عثمان بن عفان. و هذا الذى لا يخشى فى الله لومة لائم عمر بن الخطاب. و هذا الرفيق فى الرحلة, و الصاحب فى الدنيا و الرفيق فى القبر, أبو بكر الصديق. اللهم ارضى عنهم جميعاً و ارزقنا التأسى بخلقهم. بعد أن استفقت من انبهارى, وجدت ان القائمين على المسجد يقومون بإخراج المصلين من هذا الباحة حتى يتسنى للنساء زيارة الروضة الشريفة.

خرجت من الباحة و توجهت إلى باب أبى بكر رضى الله عنه لأدخل إلى قبر النبى صلى الله عليه و سلم. انتظرت ما يقرب من ثلث الساعة حتى يحين دورى. و حين فتح الباب أندفع الناس إندفاعاً, وقفت أمام قبر النبى صلى الله عليه و سلم و لم أعرف انه القبر, و قفت لدقائق قليلة أمامه ثم انصرفت. شىء ما أخبرنى اننى يجب ان اعود, درت حول المسجد ثم عدت لنفس الباب. هذه المرة دخلت إلى مكان قريب من قبر النبى صلى الله عليه و سلم و قد حشرت فيه حشراً مع زمرة من الزوار لمدة اقتربت من الساعة إلا الربع. يالله لقد رفع الله قدرك و ذكرك يا رسول الله, طبت حياً و ميتاً يا أبا القاسم يا أبا الزهراء يا جد الحسن و الحسين يا سيد الثقلين ,الأنس و الجن. الناس يتقاتلون لينالوا شرف الصلاة فى روضتك الشريفة, ثم يتبعوها بزيارة قبرك الشريف. حينما اقتربت من الروضة و قد قسم الحراس الزوار لمجموعات صغيرة حتى يستطيع الناس الزيارة و حتى لا يدهسوا بعضهم البعض. حينما اقتربت من الدخول إلى الروضة, وقف شاب من أئمة الحرم المدنى و الله أنى أحبه فيك يارب لدماثة خلقه و لحسن دعوته فلا تحرمنا مرافقته و مرافقة النبى صلى الله عليه و سلم فى الفردوس الأعلى من الجنة. ظل هذا الشاب يعظ فينا عن أداب زيارة القبور, و أن النافع هو الله و اننا لانأخذ بركتنا من القبور حتى و لو كان القبر هو قبر النبى صلى الله عليه و سلم, و أننا نعبد الله وحده من دون كل الوجود, و أننا حين نقترب من الروضة فيجب ان تعلونا السكينة و الا ندفع بعضنا بعض و الا نطيل فى الصلاة حتى نعطى الفرصة لأخواننا للصلاة فى الروضة. بعد قليل انفتحت اخر بوابة و للأسف نسى الناس كل ما قاله هذا الشاب الجميل و اندفعوا اندفاعاً شديد للصلاة فى الروضة
فى مساحة لا تتعدى الأمتار القليلة, المئات من المصلين يتزاحمون للصلاة فى الروضة الشريفة
أحد أئمة الحرم النبوى الشريف. رجل أحبه فى الله

الأنفاس و قد أحتبست فى إنتظار الدور للصلاة فى الروضة الشريفة



حينما قدر الله عزوجل لى الصلاة فى الروضة الشريفة, و الروضة لمن لا يعرف و كما جاء فى حديث النبى صلى الله عليه و سلم, هى المسافة ما بين منبره و قبره الشريف, و هى روضة من رياض الجنة كما قال صلى الله عليه و سلم. مرة أخرى تلاشى المكان, و صرت لست بالشخص الذى اعرفه منذ ثلاثين عاماً و يزيد. شعرت بهزة عنيفة من داخلى, و قشعرية سرت فى جسدى كله و رغبة عارمة فى البكاء. إنسابت الدموع منى و قد أجهشت فى بكاء لم أعرف متى سينتهى. لم يوقظنى من تلك الحالة إلا كلمات ذلك الشاب الأمام  التى قفزت فى عقلى فجأة, "لا تطيلوا فى الصلاة حتى تعطوا الفرصة لإخوانكم". أنهيت الصلاة و تحركت قليلاً لأسلم على النبى صلى الله عليه و سلم و صاحبيه أبو بكر و عمر. حينما وقفت أمام قبر النبى صلى الله عليه و سلم, كنت اتوارى خجلاً فنحن لم نفعل شيئاً بعد لنصرة الإسلام. هذا الدين الذى جائنا سهلاً غضاً ليناً, بينما تكبد صاحب هذا المقام الشريف و أصحابه الكثير ليوصلوه لنا و للأسف لم نحافظ عليه كما ينبغى. سلمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم و على صاحبيه ثم انصرفت.

طبت حياً و ميتاً يا رسول- قبر النبى صلى الله عليه و سلم و إلى جواره قبور صحابيه أبو بكر و عمر
.من الله عزوجل بعد ذلك على مرتين بالصلاة فى الروضة الشريفة, و قد تعجبت من سهولة و يسر الزيارة الثانية و قد كانت بعد صلاة التراويح. فالله عزوجل يصطفى من يشاء و يختار. فلم أكن فى الحاجة للإنتظار كثيراُ او للتدافع مع أخوانى من الزائرين. بل أننى استطعت ان اصلى مرتين فى مكانين مختلفين فى الروضة الشريفة و بمنتهى السهولة و اليسر!!

فى الليلة قبل الأخيرة لى فى المدينة صليت التراويح فى نفس الباحة خلف قبر النبى صلى الله عليه و سلم. فى هذا المكان سمعت القران كما لم أسمعه من قبل, كانت الحروف و الأيات تتخلل كل خلية فى جسدى فتهزها هزاً. فهمت القران و وعيته كما لم أفهمه من قبل. شعرت بعظمة الله عزوجل كما لم يخطر على بالى من قبل. هى فتوحات يمن الله بها على من يشاء و أينما شاء و كيفما شاء. فى هذه اللحظات الجليلة و الحبيبة إلى قلبى, شعرت بروحى تنسلخ من جسدى و كأنها تسجد أمام عرش الرحمن. يالله, كم تمنيت فى هذه اللحظة أن تتوفنى إليك لألقاك و انا مستشعر بغظمتك. لم يخرجنى من بهاء اللحظة إلا هذا الطفل الذى كان بجوارى فى الصف, و قد ظل يرمقنى و انا ابكى.

انتهت الزيارة للمدينة و معها انتهت اجمل أيام العمر. و كأن العمر كله قد أنتهى لنعود إلى الدنيا من جديد تصرعنا ذنوبنا كل يوم! بقى لنا زيارة بعض المعالم فى المدينة و كان أحبها إلى قلبى زيارة جبل أحد, "فأحد جبل يحبنا و نحبه" كما قال النبى صلى الله عليه و سلم. جبل أحد يقع على مشارف المدينة المنورة و يمكنك أن تراه من مسجد النبى صلى الله عليه و سلم. حينما تقترب من جبل أحد تشعر و كأنه قطعة من الجنة, هذا المكان عليه بهاء غير عادى و أمامه من الجهة الأخرى جبل الرماة الشهير و الذى حينما تركه الرماة لجمع الغنائم إنهزم المسلمون, كم من غنائم فى الدنيا جعلتنا نترك أماكننا لنخسر معاركنا مرة تلو أخرى؟ بجوار جبل أحد, توجد مقابر شهداء أحد و سيد الشهداء جميعاً حمزة بن عبد المطلب. حينما تنظر إلى قبور شهداء أحد, تشعر و كأن الملائكة تحفك من كل جانب, فلما لا فهؤلاء الشهداء هم من حملوا هم الإسلام حينما كان غضاً طرياً.
أحد جبل يحبنا و نحبه

السلام عليكم دار قوم مؤمنون, انتم السابقون و نحن إن شاء الله بكم لاحقون... قبور شهداء أحد

جبل الرماة

إنطلقنا بعد ذلك لزيارة مسجد ذو القبلتين, و هو المسجد الذى تم فيه تغيير القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام. تلا ذلك زيارة مسجد قباء, و هو أول مسجد بنى فى الإسلام. بعد ذلك كان ينتظرنا رحلة شاقة من المدينة إلى جدة, ثم إنتظار لما يقرب من 5 ساعات لموعد طائرة العودة للقاهرة.

على الهامش:
"إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها" حديث لرسول الله صلى الله عليه و سلم قرأته على أحد اللفتات بشوارع المدينة. هذا الحديث يلخص الحالة الإيمانية التى مررت بها فى المدينة, هى لم تكن فى مثل بهاء أجواء مكة الإيمانية و لكن للمدينة جو روحانى و سكينة تملأ كل شىء فيها لم أشعر بها فى مكة.

يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم " رحم الله رجلاً سمحاً, إذا باع سمحاً, و إذا اشترى سمحاً, و إذا إقتضى سمحاً" أو كما قال صلى الله عليه و سلم. "حنيف" هو شاب بنجلاديشى يعمل بالمدينة, ينطبق عليه هذا الحديث الجميل. فما بين دماثة الخلق و الأمانة و خفة دم المصريين!! تنوعت محاسنه. لا أعلم ماذا حدث لأخلاقنا التى ضاعت فى مادية الحياة التى نحياها.

كل شىء فى المدينة أكثر من رائع, فما بين نظافة الشوارع و حسن تخطيطها, و ما بين سلوك أهلها و دماثة خلقهم. هل تريد أن تعرف سلوك أهل بلد؟ حسناً عليك بالتعامل مع شرطتها, أو مع أصحاب المنعة و النفوذ فيها. هى من أجمل المدن التى زرتها فى حياتى و أحبها إلى قلبى. الأعجب من ذلك أن السكينة و البهاء تعلو وجوه أهل المدينة و طرقاتهم, و سوف تلحظ الفارق بين مكة و المدينة من هذا المنطلق بسهولة و يسر.

كنت أشترى بعض التمر إستعداداً لمغادرة المدينة, و أثناء تجولى حملتنى قدماى لباب من أبواب مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم لم أكن قد زرته من قبل. وجدت كشك صغير أمام المسجد يبيع مواد دعوية, ما بين كتب و أشرطة و مطبوعات شتى. تأثرت بشدة حينما سمعت صوت الشيخ محمود خليل الحصرى المميز, يصدر من مذياع داخل الكشك. فقلت لنفسى يا سبحان الله, هذا الشيخ رفعه الله بالقران لدرجة أن الناس تسمع صوته من أمام مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم.

ما زلت عند عهدى الذى عاهدت الله عزوجل عليه, من أمام قبر النبى صلى الله عليه و سلم... اللهم ارزقنا شهادة فى سبيلك و موت فى بلد حبيبك صلى الله عليه وسلم