الأربعاء، 29 ديسمبر 2021

عم الشيخ سيد

 نتأرجح نحن الشباب بين المواظبة على الصلاة فى المسجد و بين الغياب. لا أذكر فى يوم أننى ذهبت للصلاة فى المسجد إلا و وجدته إما إماما أو مأموما. كان عمودا من أعمدة المسجد , كان حينما يصلى بنا صلاة الفجر و بينما السكون يسبح بحمد الله يحلق بنا بصوته الرخيم فى ملكوت السماء فتشعر و كأنك قد ولدت من جديد. يتلو علينا ما شاء الله له أن يتلو من القران فتنساب منك دموعك رغما عنك.كنت أنظر له دائما نظرة أحترام و اجلال و يظطرب قلبى محبة حينما أراه فى الطريق أو فى المسجد. كنت أستمتع كثيرا بدروسه فى المسجد بعد صلاة العصر, كان كلامه يمتلىء رقة و عذوبه و هو يعلمنا الدين. لم أراه يوما متجهما أو متشددا فى الدين, بل كان دائما يدعو لكل الناس بالهداية. أذكر أنه فى مرة قال لنا بعد صلاة الفجر لا تغتروا بعبادتكم و لا تنظروا لمن فاتتهم الصلاة و كانهم عصاة, فانتوا لا تعرفوا أيهم أقرب الى الله, نحن أم هم!
لم يجمعنى به يوما حديث, حتى شاء الله أن اعرفه. اختار الله لى أن اعرفه فى افضل المجالس , فى مجلس لا يشقى أبدا جليسه. كان يجتمع مع أهل الله و خاصته بعد صلاة الفجر فى حلقة حول كتاب الله. فى كل مرة كان ينظر إلى بعد الصلاة و كأنه يريد أن يدعونى, و كنت دائما أخجل منه. حتى شاء الله أن يفتح لى أبواب الخير, ففى ذات يوم دعى أخى إلى المقرأة ثم أخبرنى أخى بذلك و من وقتها صرنا من تلاميذه. تعلمت على يديه أحكام التلاوة و كنت أستمتع تماما و أنا اراه يقرأ فى كتاب الله. كان حريصا جدا على أن تكون المقرأة قائمة و لم يتغيب عنها أبدا إلا ربما مرة أو مرتين على الأكثر. ذات مره و بينما كنت أقرأ كنت ألمحه بطرف عينى ينظر إلى بتركيز  شديد , ثم بعد أن انهيت التلاوة قال لى أنت صاحب صوت نوبى جميل. فكانت هذه كلمات أحببتها جدا و كأنه وضع فوق رأسى تاج الوقار.

كان دائما يسبق الجميع إلى المسجد فى الصلوات الخمس, و كنت أتعجب من ذلك جدا من أين له بالوقت و الطاقة لذلك و هو كان يعمل سائقا لتاكسى بسيط و هى مهنة تأخذ من وقت صاحبها الكثير. لم أره يوما إلا مبتسما و راضيا و يشع بهجة و محبة و رضا باقدار الله. كان وجوده حولنا يشعرنا براحة و طمأنينة لا تنتهى و لا نعرف سببها. تشعر فى القرب منه أن الدنيا لا قيمة لها و أن ما عند الله خيرا و ابقى. أحب الناس و احبه الجميع, كان له حضور طاغى و شخصية متواضعه جدا فى مزيج عجيب لا تجعلك تعرف أى نوع من البشر هو.لم أراه يوما متجهما أو متسخطا, إلا فى مره واحده لانه حضر إلى الصلاة متأخرا

 كان حريص على القران تدبرا, حفظا, و تلاوة. اذكر انه ذات يوم فى صلاة الفجر كان هو الأمام و كنت أنا خلفه مباشرة, فقرأ بفواتيح سورة الكهف ثم أخطاء فى الايات و لوهله شعرت أنه أخطاء و هممت أن اصحح له ,ثم شككت فى نفسى و قلت هل مثله يخطىء هكذا؟! ثم بعد الصلاة أنتابه حزن شديد و ظل يردد لنا و كنا ما يقرب من خمسه من تلاميذه كم هو حزين لأنه أخطاء فى التلاوة و ازداد حزنه أكثر ان احدا لم يصحح له خطأه

أذكر قبل أربع سنوات و النصف حينما قررت السفر إلى ألمانيا, و فى فجر يوم السفر صليت صلاة الفجر فى المسجد و كان هو الأمام لحسن حظى و قرأ أيات شعرت أننى أسمعها لأول مره. ثم ذهبت كعادتى لأسلم عليه و قلت له إننى سوف أسافر لطلب العلم ثم طلبت منه الدعاء فنظر إلى نظرة كلها محبة و دعى لى دعوة لا زلت أراها أمام عينى ليلا و نهارا. فقال لى "ربنا يصرف عنك شياطين الأنس و الجن" ظللت أرى أثر هذه الدعوة حتى هذه اللحظةّ!

قبل سنتين عدت إلى مصر فى زيارة و وجدت المرض قد تمكن منه و لم يعد قادرا على الصلاة أماما. ثم بعد قليل صار يصلى فى الصفوف الخلفية لأنه لم يعد قادرا على الصلاة واقفا. رويدا رويدا بدء يغيب عن المسجد و فى كل مره من هذه المرات كنت أشعر بحزن مضاعف. كان دائما ياخذنى الشوق لزيارته فكنت أذهب إلى منزله لأزوره فما من مره ذهبت إليه إلا و وجدته منكبا على كتاب الله يقرا فيه. كنت دائما ما أوصى والدى و أخى و أصدقائى أن يرسلوا له السلام و كنت أحزن حينما أعرف منهم أنه لم يعد قادرا على الصلاة فى المسجد

اليوم رحل هذا العبد الصالح و ترك فى القلب أثرا طيبا, و ترك لنا علما ننتفع به و لكن

رحل عنا و بقى لنا فى القلب وحشة لن يداويها إلا أن نلقاه فى الجنة و إن كنت أرى أننى بعيدا عن ذلك تماما, إلا أن يتغمدنى الله برحمته

نحسبه على خير و لا نزكيه على الله

أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ... سورة يونس

سلام عليك يا عم الشيخ سيد و أسال الله ان يكون مقامك فى الجنة محمودأ. كما أسال الله رب العرش العظيم أن يجمعنى بك مع من أحب فى ظل عرش رحمته


نم فى سلام