الثلاثاء، 26 نوفمبر 2019

يوم فى الظلام

(1)
كلهم فشلوا فى الإختبار,فأرجوك ما تفشلش أنت كمان
(2)
ظروف ما جمعتنى بشاب أتى ليدرس فى مدينة قريبة منى فى ألمانيا و طلب مساعدة  أن يتنزه أحد ما معه فى  مدينة فى الولاية 
التى أعيش بها. رحبت بالطبع بالفكرة و لظروف مختلفة كان  كل مره يتم تأجيل الموضوع حتى أستطاع كلانا أن نوفق موعد مناسب 
(3)
حتى هذه اللحظة يبدو الأمر عادياً, لكن دعنى أخبرك بتفصيلة سوف تجعل كل شىء مختلف تماماً.... فلتصبر قليلاً و سوف تعرف
(4)

أنتقلت حديثاً إلى المدينة التى أسكن بها حاليا منذ حوالى 4 أشهر أو أقل و كعادة  البدايات دائما ما يملأنا الحماس و التفاؤل, و لما لا فكل شىء يبدو جميل و رائع و الأهم جديد. مسكن جديد, بداية جديدة, و أصدقاء جدد لم تتلوث علاقتنا بعد.
و لكن فجأة و بدون مقدمات و بعد أيام قليلة بدأ كل شىء ينهار تماماً بتسارع عجيب وتواتر أعجب. مرت 3 أشهر هى الجحيم بعينه, كل يوم خبر صادم أكثر من الذى قبله , كل يوم أستيقظ و أخشى ما أخشاه أن يطرق أحدهم باب غرفتى ليخبرنى بمصيبة جديدة. أستيقظ فى الصباح و قبل أن أفرك عينى أو أحتسى قهوتى الصباحية المفضلة اجرى مسرعا لأتفقد صندوق البريد لعل أحدهم أرسل لى بريداً جديداً ربما يحمل خبر ما, فى بلد يقتات
أهلها على الخبز الألمانى الشهيرو البيرة الألمانية الأشهر و مراسلات البريد التى فى الغالب لا تأتى بالأخبار السارة
(5)
هذا الشاب أعمى... هى كذلك كما قرأتها أعمى و سوف أظل أستخدم هذا المصطلح حتى أفرغ من سرد حكايتنا معا, و لن أستخدم أى من تلك الألفاظ الجميلة المملؤة بالتملق على شاكلة متحدى الإعاقة أو ذوى الأحتياجات الخاصة أو حتى أخر المصطلحات الشيك أصحاب الهمم العالية! لى بالطبع أسباب فى ذلك و سوف أسردها لاحقاً
(6)
لو سألتنى فى هذه الفترة ما هو أفضل شىء كنت تتمناه؟ سوف أخبرك بدون تردد, لا مزيد من الأخبار السيئة و يا حبذا لو حصلت على إجابة حاسمة فى معضلة كبرى حدثت و لا يبدو أن لها مخرج إلا من عند الله. فى هذا الوقت كان تنفيذ حكم الإعدام و الحصول على إجابة صادمة و قاسية أكبر كثير من القنل البطىء و المؤلم تحت سياط الإنتظار
(7)
 أخيرا إلتقينا فى محطة القطار فى طريقنا إلى مدينة كولونيا الجميلة. شخصية تخطفك بذكائها الغير محدود,ربما لا تملك عيون مثل عيوننا الطبيعية و التى ربما تخبرك الكثير عن شخصية من تقابله لأول مره, و لكنك تلمح الذكاء فى تفاصيل شخصيته و أسئلته.يسمعنى أتحدث بألمانيتى الركيكة إلى مفتش القطار فيلتقط جملة أو كلمة من حديثنا و يشتبك معنا فى الحديث و هو لا يعرف الألمانية مطلقا. حينما تفتح حوار معه فلتتأكد أنك سوف تسمع كلام مختلف غير الكلام النمطى الذى قد تسمعه من من هم فى سنه. تجده يفكر فى المستقبل و يتحدث عنه بطريقة مختلفة
(8)
أسرح بخيالى قليلا و أنا أتأمل المروج الخضراء الجميلة من نافذة القطار المسرع و ينساب بين ثنايا عقلى المزدحم بالأفكار السوداء هذه الكلمات المليئة بالشجن فتملىء عقلى و روحى شجون فوق شجونها
وفى ليلة سرحت فى اللى راح
 دمعت وصحيت الجراح
 ما بقاش بيساعك البراح ولا يملى عينيك
فى الدنيا ياما جرى
 ما بتمشيش بالمسطرة
 ضحتلك، ولا يا ترى ضحكت عليك
(9)
يبدو لنفسى المهمومة وقتها أن السنوات قد إنسابت بين أنامل يدى كما ينساب الماء. تشعر بالماء بين يديك و لكن ليس لك حيلة أن توقف إنسيابه. هكذا إنقضت سنوات عمرى, ما بين إنتظار لأشياء لم تحدث كان وقتها الصبر ديدنى و معينى على مر إنتظارها و  أشخاص خطأ أفسدوا فى روحى ما أفسدوا و رحلوا تاركين ندوب عميقة كنت أتصور 
أنها سوف تنقضى مع إنقضاء السنوات و لكنها لما تفعل.كنت أظن أن الغربة ربما تساعد على شفاء روحى و تعويضها عما فات, ولكنها كانت أكثر قسوة و مرارة من كل ما مضى
(10)
عارف أنا نفسى فى ايه؟
كان هذا سؤال القاه على مسامعى الشاب, و الذى أقتلعنى من خيالاتى

نفسك فى إيه؟
نفسى أجى أعيش هنا و بفكر أقدم على لجوء
(11)
مسكين أنت أيها الشاب
أنت كغيرك و كمثلى منتج لمجتمعنا الذى أوهمك و أوهمنا جميعا أن الحياة فى الغرب مثالية إلى حد تنتهى معه كل المشاكل. بالطبع هى مقارنة بحال بلادنا جيدة جدا. لكنها قاسية جدا وباردة جدا, و لا تعطيك مجال للراحة أو لإلتقاط أنفاسك. تجعلك تتحول مع  الوقت إلى ألة مهمومة بجمع المال و تحمل سخافات الأخرين. تجعلك تموت كل يوم بشكل بطىء حنينا إلى أهلك و حياتك السابقة
(12)
أنت حكايتك ايه؟
سؤال ألقيته على مسامع الشاب هذه المرة, هنا أسترسل فى الكلام
أنا من أوائل الثانوية العامة, و طالب بالسنة النهائية بأحد كليات القمة. جئت هنا فى منحة دراسية لمدة فصل دراسى واحد . أنا بالمناسبة أدرس فى أحد كليات القمة فى الفصل ما قبل الأخير. و لكن كما تعلم من هم مثلى لا يمكنهم الإلتحاق بوظيفة جيدة فى وطن يدهس من هم مثلى دهسا كل يوم. ليس على مستوى الحكومة و لكن الناس أيضا. 
تخيل كل يوم حد يشوفنى فى الشارع لوحدى يقول لى أنت أيه اللى ممشيك لوحدك كده, فين أهلك. و كأنى مش من حقى أعيش حياتى من غير مساعدة أهلى, أو إن أهلى ليس من حقهم أنهم يشوفوا مصالحهم من غير ما يفضوا نفسهم ليا. الناس بقت قاسية أوى
(13)
ألتقطت منه الحديث: أيوه قسوة الناس موجودة و هاتفضل موجودة لحد يوم الدين. الشاطر هو إللى يعدى الناحية التانيه و قلبه سليم
(14)
أنت بتقول كده علشان ما شوفتش اللى أنا شوفته. عارف أنا مره كنت فى أوروبا هنا فى مؤتمر تبع الأمم المتحدة, و كنت مسافر رايح زيورخ. و لأن زيورخ غالية جدا كأى مدينة سويسرية, كان صعب عليا إنى أحجز فى فندق و المؤتمر كان مغطى لنا بس تذاكر الطيران. فأنا كنت بدور على أى جهة مصرية أو حد يستضيفنى عنده. المهم كلمت جمعية مصرية و أتفقت معاهم إنى أبات عندهم. بعد ما وافقوا و و أنا راكب القطر و داخل على زيورخ و الدنيا ليل و كنا فى شتاء. البيه المسئول كلمنى قبل معاد وصولى بساعه بيعتذر إنه مش هايقدر يستضيفنى علشان مديره بهدله إنه هايستضيفنى فى المكان وده بيعرض المكان للخطر. تخيل موقفى كان عامل إزاى وقتها؟ 
(15)
كلهم فشلوا فى الإختبار,فأرجوك ما تفشلش أنت كمان. الموظف إللى اتصرف هو و مديره بغباء و لا إنسانية . الناس اللى مش بتراعى مشاعرك و انت فى الشارع. كل واحد بقصد أو بدون ضايقك بسبب ظروف أنت ما أختارتهاش.
(16)
وصلنا بعد ساعة و نصف إلى كولون و فى محطة القطار المزدحمة كالعادة إكتشفت لأول مره أشياء لم أكن أفهمها. لم أكن أفهم كما هى نعمة عظيمة أن يكون لنا عينان نبصر بهما. فى مكان مزدحم كمحطة القطار, تحتاج إلى عيناك أكثر من أى حاسة أخرى. فإذا لم تنتبه إلى أبعاد الرصيف ربما ينته بك الأمر على قضبان القطار و النهاية نعرفها جميعا! لم أكن أعرف كم هو مهم أن ترى أمامك حتى تسرع فى خطواتك. لم أفهم أيضا أن صعود و هبوط الأرصفة حتى المنخفض منها لا يمكن أن يتم إذا لم أراه, خاصة حينما أكون مسرع فى خطواتى

(17)


ممكن توصف لى شكل الشارع؟ سؤال تكرر على مسامعى كثير لدرجة كنت أشعر معها كم هو سؤال سخيف
شارع زى أى شارع, كان هذا الكلام يدور فى عقلى! لكن كنت أقول له  سيارات , مبانى, محلات....إلخ كانت هذه دائما إجابتى. حتى نزل على رأسى لوح من الثلج حينما فاجأنى بقوله. تعرف أنا دايما أصحابى يقولوا لى بطل سخافة و بطل تسأل السؤال ده, بس إللى مش عارفينه إنى عمرى ما عرفت شكل الشارع و لا تخيلته. حتى لما حد بيقول لى محل أو مبنى مش قادر أتخيل الشكل ده.
شعرت بالخجل من نفسى كثيرا, و تغيرت من بعدها إجاباتى لتكون أكثر صبرا و مليئة أكثر بالتفاصيل

(18)
عارف أنا نفسى فى أيه؟
أيه؟
نفسى أكل أكل مصرى, أنا من ساعة ما جيت ألمانيا ما أكلتش أكل مصرى.. أضحك ضحكة قصيرة. ثم أقول له: أنا بعرف أطبخ كويس جدا, لو فى البيت عندى كنت عملت لك كشرى. يلتقط منى الحديث ويقول: أنا فعلا نفسى أكل كشرى. فتبدء رحلتنا للبحث عن محل كشرى فى واحدة من أكبر مدن ألمانيا

(19)
ممكن تقلب لى طبق الكشرى بتاعى... سؤال ألقاه الشاب على مسامعى
شعرت بعدها برغبة شديدة فى البكاء
(20)
إنتهى اليوم ثم إستقلينا معا القطار فى طريق العودة. ودعت الشاب فى محطة قطار المدينة التى أعيش فيها و أنا شخص أخر 
على الرغم من قسوة الأيام التى كنت أعيشها وقتها و على الرغم من مرارة  الأحداث التى كانت تلاحقنى فى تلك الأيام. كنت أشعر أن مشاكلى هذه لا شىء مقارنة بنعمة .واحدة حرم الله منها هذا الشاب لحكمة هو سبحانه وحده الذى يعلمها. أنا أؤمن تماما أن لا مجال للصدفة. فكل شخص, موقف, حدث, أو حتى مكان تزوره يكون لسبب و حكمة قد تعلمها الأن أو لاحقا. وقتها مباشرة أدركت الحكمة من هذا اللقاء.... مشاكلك التى تنغص عليك حياتك هى لا شىء مقارنة بيوم واحد فى الظلام
(20)
فى المسافة بين محطة القطار و بيتى
 كان الفجر ينسج خيوطه الأولى فى السماء
معلنا نهاية كل شىء... و الأهم
معلنا نهاية يوم فى الظلام